نشبت الحرب بين فريقين، وتدخل أحد العقلاء للصلح، فكان من وصفه لما وقع بينهما:

أَرَى خَلَلَ الرَّمَادِ وَمِيضَ نَارٍ فَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ضرام
فان النار بالعيدان تذكى وإن الحرب أولها كلام
فان لَمْ يُطْفِهَا عُقَلَاءُ قَوْمٍ يَكُونُ وُقُودُهَا جُثُثٌ وهام [1]

حقا إن  أول الحرب الكلام ،كلمة نابية غاضبة تغيب عنها الحكمة فتشعل فتيل أزمة تبدأ بالعداوة وقد لا تنتهي بالقتل والقتال، ونار تحرق الأخضر واليابس وتقطع ما أمر الله به أن يوصل من علاقات الأخوة والرحم، وإذا كانت وساوس شياطين الإنس والجن تشعل النيران

أو تنفخ في الرماد، فإن أولياء الله الذين يؤلف بهم بين المتنافرين لا يقفون مكتوفي الأيدي، بل يبذلون كل ما يستطيعون بل فوق ما يستطيعون لإطفاء هذه النيران التي تتسع دائرتها حتى لا تبقي ولا تذر؛ قياما بحق العبودية لله رب العالمين، وتحقيقا لمقاصد الإسلام من جمع القلوب وتوحيد الكلمة.

وفي مثل هذه الأجواء المشتعلة بالرغبة في الانتقام ورد الصاع صاعين أو أكثر،  يبدو الحديث عن تقريب وجهات  النظر ضربا من الخيال، لكننا نعود إلى مجلس الفاروق رضي الله عنه نستلهم منه الزاد لمثل هذه المواقف الصعبة، في مجلس عمر بن الخطاب الذي يضم أهل القرآن والعلم صغارا كانوا أو كبارا ،يدخل رجل ويخاطب الفاروق – وهو أمير المؤمنين – خطابا بعيدا عن اللياقة والعدل والصدق، ينفعل أمير المؤمنين ليرد عن نفسه هذه التهم انفعالا يفهم معه الحاضرون أن عقابا سيقع على هذا المتطاول.

لكن أحد الشبان الحاضرين يقوم بدور الإطفائي،  فيذكّر أمير المؤمنين بجملة قرآنية كريمة تسكّن غضبه، ونرى بعدها نموذجا للمؤمن السامع المطيع لأمر ربه متمثلا في شخصية الفاروق،  ويقدم لنا الموقف بأكمله صورة لما ينبغي أن تكون عليه مجالسنا.

روى الإمام البخاري في صحيحه قال: «قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا»، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فَاسْتَأْذَنَ الحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ»، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، «وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ»

إن الغضب قد اشتد  والخليفة يريد أن يأخذ حقه ممن كذب عليه، وإذا بهذا الشاب – الذي يصلح الله تعالى به أحوال المجتمعات – يأخذ زمام المبادرة ويذكر الخليفة بالصفح والعفو.

 إن الحديث عن  العفو والصفح كثير، وسيجد المتحدث رصيدا عظيما من التوجيهات الإلهية والنبوية وممارسة الصالحين لهذه الفضيلة العظيمة من لدن الأنبياء إلى عصرنا الحاضر،  لكن ممارسته صعبة في زمن يعني العفو عند أهله:” الضعف والاستكانة” وينتشر شعار:” إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب” ويقوم أحدهم بالظلم تحقيقا لردع الآخرين قائلا مع القائل:

بغاة ظالمين وما ظُلمنا ولكنا سنبدأ ظالمين

إننا نحتاج لهذا الإطفائي، كما نحتاج إلى نحرك في نفوسنا ما يحملها على العفو، أما المجتمع فحق عليه أن يسعى لما يحقق السلم بين أفراده.

أما الإطفائي الذي يمثله في هذا الموقف الحر بن قيس وقد هيأه علمه للجلوس مع الكبار، واستقبله المجتمع كواحد من أصحاب الرأي المعتبر في الأزمات؛ يقدم على محاولة الإصلاح هذه وكف غضب الخليفة، وينجح في ذلك بما يملك من حكمة، ليثبت قدرة الشباب – إذا تزينوا بالعلم والحلم – على فعل ما ينفعهم ومجتمعاتهم.

ويقدم الحر بن قيس نموذجا لما يمكن أن يفعله  أهل الخير – الذين يعملون كإطفائيين – قبل أن تشتعل الحرائق بحكمتهم وحنكتهم وصبرهم وخبرتهم بالناس، وهذا من قبيل زكاة النعم المعنوية، وإذا كان إصلاح ذات البين أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة، فإن منع التصادم وإطفاء الشرارة الصغيرة  التي تسبب معظم النار من أعظم العبادات عند الله تعالى.  

وتصل النصيحة إلى هدفها من تخفيف حدة الصراعات عندما يتزين صاحبها بالإخلاص ويشعر أطراف النزاع بصدقه وحبه للجميع. 

الإطفاء من داخل النفس:  نحب أن نؤكد على أن المؤمن يغضب كسائر الناس، ولكنه يحسن التعامل مع غضبه {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } [الشورى: 37]من خلال أمور عدة منها:.

1-نتساءل هل هناك من طريق يمكن للإنسان أن يسلكه ليتحلى بخلق العفو؟  مع الأخذ في الاعتبار ما تفرضه ضغوط الحياة علينا وحركتها المتسارعة مما يمثل  حملا ثقيلا على النفس البشرية ويدفعها إلى الانفجار والاشتعال عند أول تماس، ونتعجب بعد أن تهدأ أعصابنا   إن الموقف لم يكن يستحق كل هذه الفوضى وهذا الدمار، ولكنها التراكمات التي تجعل من كل قطرة يفيض بها الأناء، ومن كل قشة تقصم ظهر البعير، مع الأخذ في الاعتبار أن الأناء ضيق وأن ظهر البعير ضعيف جدا.

2-يحتاج اكتساب الأخلاق الحميدة إلى جهد وصبر، فإن رفع الماء من الأسفل للأعلى يحتاج لمجهود يقوم به الإنسان أو تقوم به الآت الرفع، فما بالنا بالتخلق بخلق يقيد النفس بقيود عديدة ويمنعها من الانتقام،  ويمنعها من الاستماع للمحرضين على الثأر  ومن يشاركون إبليس في تصوير كل تصرف على أنه انتقاص من الكرامة سواء أكان بقصد أو غير قصد.  

3-بناء الصلابة النفسية الي توسع من صدورنا وتزيد من طاقتنا للتحمل، وهذا يحتاج إلى جهد وصبر وعمل، من الأسرة والمجتمع ومؤسساته، وسعي من الإنسان لتحصيل هذا الهدف الكبير الذي يستحق كل ما يبذل فيه، ونجد أن العبادة الخاشعة أحد أهم أسباب تحصيل هذه الصلابة،{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97 – 99] {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا } [المزمل: 1 – 5]

4-ممارسة الرياضة تخفف التوتر.

5-التغاضي فإنه من شيم الكرام، والتغاضي الذي يتم من النفوس الكبيرة يدرك من يسيء إليهم أنهم يعلمون الإساءة ويقدرون على ردها أضعافا مضاعفة، لكنهم لا يسمحون لأنفسهم أن تنزل من مكانتها الرفيعة التي وصلتها بالعمل والصبر  والأخلاق الحسنة.

6-الترفع عن الصغائر  فإن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها، وكلما امتلأ العقل والقلب بالسفاسف كلما انحدر الإنسان في سلم الأخلاق والدين والحياة، وكل ما وقفت عند السفاسف كلما استهلكت طاقتك وصرت أقرب إلى ردود أفعال غير محسوبة.

7-الانشغال الدائم بما ينفع، خصوصا للشخصيات التي تتأثر بالمواقف السلبية فإن الأواني- والعقل والقلب منها – لا تعرف الفراغ؛ فإما أن تمتلأ بالذكريات الإيجابية التي تجذب بعضها البعض، أو بالذكريات السلبية التي يجذب بعضها البعض أيضا.

8-حضور أهل العلم والحكمة الإخلاص في حياتنا، نفتح لهم قلوبنا ونستنير بآرائهم ونتشاور معهم، ومصاحبة أهل الحلم فإن الأخلاق تنتقل بالمعايشة والحب، وواجب على من نثق فيه أن يتحمل هذه الأمانة وأن يتحلى بسعة الصدر.

9-تفريغ شحنة الغيظ والضيق من خلال الحكاية لصديق أو الكتابة على الورق  ينفس كثيرا عن الإنسان ويجنبه الانفعالات المؤذية.

10-وأحب أن أنبه إلى أن العفو الذي نستعلي فيه على أنفسنا ومن يدعونا للانتقام، يجب أن يقابل من الأطراف المعتدية بتقدير واحترام وتوقف عن الإساءة، وإلا استخدم الإنسان حقه في إيقاف الآخرين عند حدودهم دون ظلم أو بغي { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) } [الشورى: 40 – 42]

واجبات المجتمع

وعلى المجتمع واجبات كذلك في إطفاء نيران العداوة والبغضاء منها:

1-مراعاة ما يعانيه الناس من ضغوط، فنختار ألفاظنا وتصرفاتنا  ولا نكون عبئا إضافيا  يجعلهم يشتعلون عند أول نظرة أو موقف.

2-إن عفو القادرين على الانتقام يحفز غيرهم على العفو، وينفي مسبة اقتران العفو بالعجز ،ويزيد من مساحة الخير في المجتمع.

وأخيرا: إن الذي يستجيب لأمر ربه بالعفو والإعراض عن الجاهلين هو المسلم الذي يرى في هذا الأمر نجاته ونجاة خصمة وسلامة المجتمع وسلامة الصدور،  ويرى في العفو عن الناس سبيلا لطلب العفو من الله تعالى. أما من لا يرى هذا الحل وسيلة لإنهاء النزاعات فسيظل يتقلب في نيران العداوة والبغضاء حتى تهلكه، والنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.


[1] البداية والنهاية