قال تعالى : { قال يا قوم أرأيتم إن كنت علىٰ بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا ۚ وما أريد أن أخالفكم إلىٰ ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ۚ عليه توكلت وإليه أنيب } ( هود: 88)

معارك الحق والباطل لم ولن تتوقف إلى قيام الساعة. وما قافلة الأنبياء الكرام، إلا دليل على أن الفساد بأشكاله وألوانه المتنوعة، كانت سبباً لبعث الرسل والأنبياء إلى أقوامهم، وقصصهم المختلفة التي حكاها القرآن للعظة والعبرة.

معركة الاصلاح أو محاربة الفساد، معركة أزلية دون شك، وكل قصص المصلحين مع المفسدين، إنما هي مشاهد من المعركة الأزلية بين الحق والباطل، منذ أن بدأت أولى المشاهد بين آدم عليه السلام وإبليس في الجنة، إلى أن انتقلت بعد ذلك إلى الأرض، لتستمر إلى يوم الناس هذا.

على رغم أن الباطل دوماً وأبداً يدرك تمام الإدراك أنه على غير هدى، وأن معركته مع الحق خاسرة في نهاية المطاف، إلا أنه يعتبرها معركة ذات فصول عديدة. فكلما استطاع أن يكثر ويطيل من أمد تلك الفصول، كلما عاش فترة أطول وحافظ على مكاسبه لأمد أبعد.

  إنه يحاول بكل الطرق والأساليب، مستخدماً كل الأدوات الممكنة لأجل أن يحافظ على مكاسبه ونفوذه، وإن دفعته الأمور لتشويه الحق وتصويره بأقبح الصور.. إنها معركة بقاء ومعركة كسب صلاحيات ومعركة توسيع نفوذ. ثلاث معارك في آن واحد مع الحق وأهله.

    شعيب والفساد الاقتصادي   

النبي شعيب عليه السلام، أو خطيب الأنبياء، ذكر القرآن قصته مع قومه. قصته كانت نموذجاً من تلك المعارك الإصلاحية. حيث كانت تدور حول فساد اقتصادي انتشر وساد البلد، حتى عُرفت قرية مَدْيَن بالغش والاحتيال التجاري بكافة أشكاله. بالإضافة إلى ذلك الفحش في التعامل التجاري، كانوا يقطعون الطريق، ويخيفون المارة، ويبخسون المكاييل والموازين، ويطففون فيهما، فيأخذون بالكثير ويدفعون بالقليل، وكانوا مكّاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه – أي فرضوا الضرائب على الناس دون وجه حق في أي معاملة يرغبون فيها – وهو عمل محرّم، بل عدّه العلماء من كبار الذنوب والموبقات.

كالعادة عند أهل الفساد، اعتبروا دعوة شعيب لهم للتوقف عن تلك الأفعال والأخلاقيات المسيئة لهم ولسمعة بلدهم، نوعاً من الرغبة في إدارتهم والتحكم بهم، أو تغيير معتقداتهم التي ورثوها عن آبائهم الأولين، حتى وإن كان أولئك الآباء على ضلال مبين. فما كان منهم إلا أن دخلوا معركة ستبدو طويلة مع شعيب عليه السلام، ليس لشيء سوى العناد أولاً، وللمحافظة على مكاسبهم غير المشروعة، التي رأوا في دعوة شعيب خطراً عليها.. والذي بدأ بقوله { لا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير } ( هود: 84) .

هكذا وصف القرآن بداية ما دار بين شعيب ورؤوس الفساد الاقتصادي في قريته. هو يراهم في وضع اقتصادي رفيع المستوى، ووضع من الرخاء لا يستدعي أبداً اللجوء للغش والاحتيال والنصب على عباد الله. ولا يستدعي كذلك فرض المكوس عليهم بغير وجه حق، أو قطع طرق القوافل التي كانت تجوب الجزيرة العربية من شمالها إلى جنوبها، مروراً بقرية مدين التي كانت في الوسط، تتحكم في حركة القوافل التجارية.

قرية مدين، كانت تعيش رخاء اقتصادياً وحياة طيبة، لكن الجشع والطمع وفساد العقيدة عند متنفذين فيها، أضرت بسمعة القرية في الإقليم وما حوله، فصارت مضرباً للظلم والفساد الاقتصادي. وهذا ما كان يدعو شعيباً قومه للتخلي والتراجع عنه، والحفاظ على سمعة البلد، وقبل ذلك الحفاظ على مستقبلهم الدنيوي قبل الأخروي، لأن ما يقومون به ظلم لا يأتي بخير.

لكن كان الجواب كعادة أهل الفساد، هو الاستهزاء به وبدعوته، والسخرية منه.

   إن أريدُ إلا الإصلاح ما استطعت

كررها لهم مرات ومرات. دعوته لا يرجو من ورائها منصباً ولا مصلحة دنيوية كما يتصورون. لا يريد سوى إصلاح الواقع الفاسد لمجتمعه كي يضمن عاقبة حميدة لهم في الدنيا قبل الآخرة. لكن حين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة وتفرغ من القيم الرفيعة والمُثل العالية؛ فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا؛ فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة، ولا لحقيقة كبيرة؛ ولا تتحرج عن البطش بالداعية إلا أن تكون له عصبة تؤويه؛ وإلا أن تكون معه قوة مادية تحميه. أما حرمة العقيدة والحق والدعوة فلا وزن لها ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية “.

هكذا يصل الطرفان إلى نقطة لابد من الفراق أو المفاصلة، بعد أن حاول كل طرف استمالة الآخر. شعيب عليه السلام، حاول إنقاذ قومه من عاقبة غير حميدة في الدنيا قبل الآخرة، فيما قومه حاولوا تخويفه وتهديده للرجوع عن دعوته. فأعلنها شعيب عليه السلام أن دعوته وصلت لطريق مسدود معهم { ويا قوم اعملوا على مكانتكم } (هود : 93) أي سيروا على ما أنتم عليه من فساد وسوء أخلاق وتصور للحياة، وأمضي أنا على صراط الله المستقيم، ثم {سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب  } هل أنا أم أنتم؟ بل أكثر من هذا قال لهم بثقة المؤمن بربه { وارتقبوا إني معكم رقيب} أي انتظروا العاقبة القادمة، وأنا بالمثل سأنتظرها، فالأمور قد وصلت فعلياً إلى نقطة النهاية.. نهاية الظلم والفساد، وبالمقابل نجاة الإصلاح والمصلحين { ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين } (هود : 94).

وهكذا دوماً نهاية الفساد وأهله، ولكن لا حياة لمن تنادي.