تطورت مسيرة الكتابة العربية بعد أن غدت خطا مميزا على أيدي الأئمة الكبار من أمثال الإمام المهندس ابن مقلة، وهو من أشهر خطَّاطي العصر العباسي وأول من وضع أسس مكتوبة للخط العربي، يُعتقد أنه مخترع خط الثلث ورائد ومؤسس قاعدتي خطي الثلث والنسخ، وإليه تُعزى نظرية الخط المنسوب، لكن لم يبق أي شيء من أعماله الأصلية. وهو الذي تولى الوزارة ثلاث مرات وعزل ثلاث مرات ودفن ثلاث مرات ونفي وصودرت أمواله، وقطعت يده ولسانه في آخر عمره، بعد أن خط القرآن الكريم مرتين، وترك رسالة في علم الخط والقلم.

ابن مقلة رجل بلغ في الخط العربي شأنا عظيما، صاحب خط حسن، أبدع في هندسة حروفها، وقدر مقاييسها، وكان خطّه يُضرب به المثل في عهده، فصار شيخ الخطَّاطين ومهندس صناعتهم، وأورد أبو حيّان التوحيدي في رسالته “علم الكتابة” ما قاله ابن الزنجي: “أصلح الخطوط وأجمعها لأكثر الشروط ما عليه أصحابنا في العراق. فقيل له ما تقول في خط ابن مقلة؟ قال: ذاك نبيّ فيه، أُفْرِغَ الخطُّ في يده كما أُوحِي إلى النحل في تسديس بيوته”.

من هو ابن مقلة؟

هو أبو علي محمد بن علي بن الحسين بن مقلة الشيرازي، وُلِد عام (272هـ=886م)، وتُوفِّي بها (328هـ=939م)، خطاط بغدادي وعربي كبير، من أشهر خطاطي العصر العباسي وأول من وضع أسس مكتوبة للخط العربي. عمل للخلفاء العباسيين، وتولى الوزارة للمقتدر بالله سنة 316 هـ ثم نقم عليه ونفاه إلى بلاد فارس عام 318هـ.

ولد لبن مقلة في بيت علم وفن اشتهر بخطاطيه. أخذ الخط عن أبيه وعن إسحاق بن إبراهيم البربري الأحول المحرر، وبلغ درجة عالية من الدراية والتعمق به، واستطاع هو وأخوه أبو عبدالله أن ينقلاه نقلة فنية نوعية ـ لم تتفق المصادر التاريخية حول دور كل منهما فيها ـ إذ ألفا من الأقلام التي بلغت أربعة وعشرين، ستة أنواع هي الثلث والريحان والتوقيع والمحقق والبديع والرقاع، وهندس هو ـ أو أخوه ـ مقاييسها وأبعادها معتمدًا على العلاقة بين النقطة والدائرة، فجعل الألف قطرًا لهذه الدائرة ونسب إليها الحروف جميعا، ووضع معايير لضبط الخط والوصول به إلى صيغ جمالية محكمة مما شكل النقلة الأولى في الخط المنسوب، والتي ظلت أساسا بُنيت عليه كل التطورات اللاحقة.

وعرف ابن مقلة بهذا الإسم، لأن له أمّا كان أبوها يلاعبها في صغرها ويقول لها:”يا مقلة أبيها “فغلب عليها هذا الاسم واشتهرت به ، فاتصل هذا الاسم المشهور بابن مقلة الذي كان ضمن سلالتها معروفّ به ، فكان بذلك مقلة الزمان وملك الخط والبيان.

اسهاماته في الخط العربي

كان من إنجازات هذا الوزير أنه أول من هندس حروف الخط العربي، ووضع لها القوانين والقواعد، وإليه تنسب بداية الطريقة البغدادية في الخط، وأول من كتب مصنفاً في الخط العربي ذكر فيها مصطلحات هذا العلم البديع، مثل مصطلحات ” حسن التشكيل” وهي التوفية، والإتمام، والإكمال، والإشباع، والإرسال، ومصطلحات “حسن الوضع ” وهي : الترصيف، والتأليف، والتسطير، والتنصيل.

كما أنه وضع قواعد دقيقة في ابتداءات الحروف وانتهاءاتها، وفي علل المدّات، وأنواع الأحبار، وفي أصناف بري القلم، يقول إدوارد روبرتسن “إن ابن مقلة قد اخترع طريقة جديدة للقياس عن طريق النقط، وجعل الريشة وحدةً للقياس، فقد جعل من حرف الألف الكوفي مستقيماً بعد أن كان منحنياً من الرأس نحو اليمين كالصنارة، وقد اتخذه مرجعاً لقياساته، وخطا ابن مقلة خطوة أخرى، إذ هذّب الحروف، وأخذ الخط الكوفي كقاعدة، وأخرج من هذه الحروف اشكالاً هندسية، وبذلك أمكنه قياس هذه الحروف “.

وابن مقلة هو الذي هندس الحروف وأجاد تحريرها وعنه انتشر الخط في مشارق الأرض ومغاربها، مما يعني أن خطه اتسم بالجمال البديع وذاع صيته في الدنيا، وبلغ به درجة عالية في نفوس الناس حتى وصفوه بأنه أجمل خطوط الدنيا، وقال عنه ياقوت الحموي “كان الوزير أوحد الدنيا في كتبه قلم الرقاع والتوقيعات، لا ينازعه في ذلك منازع، ولا يسمو إلى مساماته ذو فضل بارع “، وقال الثعالبي أيضاً “خط ابن مقلة يُضرب مثلاً في الحسن، لأنه أحسن خطوط الدنيا، وما رأى الراؤون بل ما روى الراوون مثله!”

مؤلفاته ورسائله في فن الخط

ترك ابن مقلة عدداً من المؤلفات والرسائل والأشعار بعضها ضاع بفعل الزمن والآخر وصلنا ليدل على عمق ثقافة هذا المبدع، واتساع معرفته بصناعته، وخبرته الواضحة، وفنه الرفيع ولعل ما ترك لنا شيخ الخطاطين رسالته في الخط المعروفة باسم ” رسالة الوزير ابن مقلة في علم الخط والقلم”.

وقد برع من بعده إسماعيل بن حماد الجوهري ومهلهل بن أحمد ومحمد بن أسد ومحمد السمسماني والخطاط الخلاق عليّ بن هلال ابن البواب.

في كتابة “الخط العربي”، وهي التعاريف والتعاليم المعمول بها حتى الآن والتي بها يمكن لأي خطاط اثبات مدى صحة الخط وتوافقه من عدمه، كما أنه أول من اتخذ حرف الألف كمقياس ثابت لقياس بقية الحروف عليه، ومنذ ذلك الحين والخطاطون يتخذون بداية الالف كأساس ثابت لوضع تصورهم في فن زخرفة الحرف العربي، ومن خلال تأسيسه لتلك الهندسة، جعل ابن مقلة من السهل هندسة الخط بالتنقيط فالحروف العمودية أو الأفقية، تتبع حسابات عدد النقط اللازمة في تشكيلها من حيث الطول والحجم وعلى نفس المنوال تكون الحروف المائلة والمنحنية ويتم ايضا قياسها على حرف الالف، ويعتبر الخط المتساوي هو الخط الذي يتخذ الألف مقياسا له في الطول والقلم في العرض، حيث تتشابه تطبيقات مقاييس الخط الى حد كبير مع تطبيقات الايقاع الموسيقى، إذ ان انسجام الخط وروعة تصويره، يعد بمثابة موسيقى للعين يحسها ويشعر بها فنانو الخط حتى ان معلمي الخط من كثرة تألفهم معه يتعرفون على الابعاد والمقاييس بل والمساحة دون عناء او صعوبة.

قدم ابن مقلة انجازات فنية مهمة في علم الخط العربي وفنه، حيث يرجع إليه الفضل أيضا في أنه أول من نقل الْخط الكوفي إلى العربي، بالاضافة الى ابتكاره لخطي الثلث والنسخ، استطاع فيما بعد حصر أنواعه التي جاوزت العشرين وجعلها في ستة هي (الثلث والنسخ والتوقيع والريحان والمحقق والرقاع)، وَقيل إنه كتب كتاب هدنة بَين الْمُسلمين وَالروم فوضعوه فى كَنِيسَة قسطنطينية وَكَانُوا يبرزونه فى الأعياد ويجعلونه من جملَة تزايينهم فى أخص بيُوت الْعِبَادَات ويعجب النَّاس من حسنه.

حياته المضطربة

عاش ابن مقلة حياة مضطربة كعصره بدأها كاتبًا بسيطًا ينتفع بخطه ثم تولى خراج بعض أعمال فارس فتحسنت أحواله. تولى في بداية حياته – في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله – بعض الأمور الإدارية في الدولة ، فولي بعض أعمال فارس يجبي خراجها ، ثم عاد إلى بغداد يخدم في بعض الدواوين في كل شهر بستة دنانير ينسخ ويكتب إلى أن علق بأبي الحسن بن فرات الذي رفع من قدره وحسن من أحواله ، فعرض جاهه واشتهر حتى روي خبر كتابته كتاب هدنة بين المسلمين والروم وبقي الكتاب إلى زمن السلطان محمد الفاتح حين فتح القسطنطينية سنة ,1453

وقد أخذ أبو علي بن مقلة الخط عن الأحول المحرر وانتهت إليه رئاسة الخط العربي في عصره ، حيث تقلد الوزارة في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله سنة 316 للهجرة ، سنة 318 للهجرة.

بعد ذلك نفي إلى بلاد فارس بعد أن صودرت أمواله ، ولما آلت الخلافة إلى القاهر بالله أرسل إليه يستدعيه واتخذه وزيراً سنة 320 للهجرة ، ولم يزل وزيراً للخليفة القاهر إلى أن اتهم بمعاضدة علي بن بليق الذي خرج على الخليفة ، فبلغ الخبر ابن مقلة أن الخليفة يريده فاختفى واستتر سنة 321 هجرية.

بقي ابن مقلة متخفياً عن الخليفة، وكان يظهر بزي رجل أعجمي او بزي رجل مكدي او بزي رجل فقير ناسك ، وأحياناً بزي امرأة. وبقي على هذه الحالة إلى أن آلت الخلافة إلى الراضي بالله 322 هجرية ، فاستوزره الخليفة الراضي فعاش ابن مقلة في هذه المرحلة حياة مترفة واستراحت نفسه عندما نال ابنه الوزارة. لكن حساده لم يتركوه والنعيم الذي اطمأن إليه ، فكان يطارده سوء الحظ في كل وقت حيث ساق إليه سوء طالعه الوزير المظفر بن ياقوت الذي كان له تأثير كبير على الخليفة ، فملأ صدره ضد ابن مقلة واحتال ابن ياقوت في القبض عليه فاتفق مع الغلمان الذين يعملون في دار الخلافة بإلقاء القبض عليه فور دخوله دهليز دار الخلافة ، وأفهم الوزير المظفر الغلمان أن الخليفة لا يعارض هذا الإجراء وربما سره ذلك الأمر.

فلما وصل الوزير ابن مقلة الدهليز المتفق عليه في دار الخلافة ، وثب عليه الغلمان وأطبقوا عليه ومعهم ابن ياقوت وأرسلوه إلى الخليفة الراضي وقد عددوا للخليفة ذنوباً وأسباباً تقتضي ذلك الإجراء وروجوا لذنوب لم يقترفها ، وقام الوزير ابن ياقوت بالتنكيل بابن مقلة وساعد على ذلك حقد وغضب الخليفة عليه.

قطعت يده اليمنى فأبدع باليسرى وخَطَّ القرآنَ مرتين

بقي ابن مقلة عرضة للمحن والفتن إلى أن أصدر الخليفة أمراً بقطع يده اليمنى الأولى سنة 324 للهجرة ، وذلك بإيعاز من ابن رائق الذي استولى على مقاليد الحكم وقرن اسمه مع الخليفة في الدعاء على المنابر. وقيل أن يده أُلقيت في دجلة إلا أن الخليفة عاد وندم على إصداره ذلك الأمر المجحف بحق ابن مقلة وأمر الأطباء بمعالجته في سجنه ، وفي ذلك قال الحسن بن ثابت بن سنان بن قرة الطبيب ، وكان يدخل على ابن مقلة لمعالجته :”كنت إذا دخلت عليه في تلك الحال يسألني عن أحوال ولده أبي الحسين فأعرفه أحواله فتطيب نفسه ثم ينوح على يده ويبكي”ويقول:”قد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة من الخلفاء، وكتبت بها القرآن الكريم دفعتين، تقطع كما تقطع أيدي اللصوص “.

فأسليه وأقول له:”هذا انتهاء المكروه وخاتمة القطوع” فينشدني ويقول :

إذا ما مات بعضك فابك بعضاً *** فإن البعض من بعض قريب.

لم يرق للخليفة الراضي ان يبقى ابن مقلة في السجن فأرسل إليه من يخلي سبيله وأكرمه ورشحه للوزارة من جديد قائلاً :”إن قطع اليد ليس مما يمنع من الوزارة”. وكان ابن مقلة يشد القلم إلى ساعده ويكتب به ، وأخذ يمرن يده اليسرى حتى أجاد.

ثم تعرض ابن مقلة لمحن شديدة قاسية وبشعة لا يحتملها عقل، عندما أمر الخليفة الراضي بالله بقطع لسانه وحبسه ولم يكن له من يخدمه، فكان يستقي الماء لنفسه من البئر فيجذب بيده اليسرى جذبة وبفمه جذبة الأخرى حتى توفي ودُفن فيه ثم نبُش فدفن في بيت ابنه، ثم نبش فدفن في بيت زوجته.

ومن أعجب ما حصل لابن مقلة أنه تقلد الوزارة ثلاث دفعات لثلاثة خلفاء من العصر العباسي، وسافر في عمره ثلاث سفرات، ودفن بعد موته ثلاث مرات !وكان كاتبا بارعا وشاعرا مجيدا، له رسالة في علم الخط والقلم، وخَطَّ القرآنَ مرتين.

كما أن له أشعار في حاله وما انتهى إليه أمره ورثاء يده والشكوى من المناصحة وعدم تلقيها بالقبول ، والندم على تقربه من الحكام والسلاطين.

ما سئمت الحيـاة لكن توثقت *** بأيمـانهم فبـانت يميني

ولقد حُطتُ ما استطعت بجهدي *** حفظ أرواحهم فما حفظوني

ليس بعد اليمـين لذة عيـشٍ *** يا حيـاتي بانت يميـني فبيني