قال تعالى : {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتبعوا من لا يسألكم أجراً وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}

(سورة يس : 20-27 ) .

قال يا قوم اتبعوا المرسلين.. هكذا قال حبيب النجار، كما في كتب التفاسير، من بعد أن سار سيراً حثيثاً، وكان من أهل القرية التي قص الله قصتها في سورة ياسين، القرية التي أرسل الله إليهم رسولين، وما وجدا غير التكذيب منهم، على عادة أهل القرى في تلك الأزمنة الغابرة، فأرسل الله رسولاً ثالثاً يعززهما، فلعل وعسى يثمر تعزيزه، وتتغير آراء ونظرة أهل قرية أنطاكية، التي قال كثير من المفسرين إنها المقصودة في السورة، لكن الوضع لم يتغير.

كان حبيب النجار يعيش على أطراف المدينة بعيداً عن الناس، ولعل عزلته كان سببها وضع أهل الديرة من حيث الشرك والكفر بالله، فآثر الانعزال، شأنه شأن كثير من الذين كانوا على دين الخليل إبراهيم، أو على أقل تقدير، كان بعيداً عن عبادة الأوثان والشرك بالله، فلما سمع بقصة الرسل وتكذيب قومه لهم، قام مسرعاً كما في الآية (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى)، والسعي هنا إشارة إلى السرعة في المشي، رغبة في معرفة ما يدور بين الأهالي والرسل.

لما وصل مركز المدينة وسمع من المرسلين دعوتهم، صدقهم على الفور واقتنع بما عندهم، ولم يكتف بذلك، بل بادر من فوره وبدأ يدعو قومه لتصديق خبر السماء الذي جاء به المرسلون (قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون..)، ثم أعلنها في النهاية أمام الجميع، وقال للرسل (إني آمنت بربكم فاسمعون) فكانت صدمة قومه كبيرة، ومن شدتها قاموا من فورهم بقتله، كما في سياق الآية، فاستحق بذلك الشهادة وما يتبع الشهادة من تكريم إلهي لا محدود، بدءاً بدخول الجنة وإلى ما شاء الله له من التكريم بعد ذلك، ودخل الجنة ورأى جميل جزاء تصديق المرسلين، كما أخبرتنا الآية، حتى (قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين).

لكن بالمقابل، ما كان جزاء العناد والتكذيب؟

لقد كان جزاؤهم كجزاء القرون السابقة، قوم نوح وأصحاب الرس وثمود، العذاب والفناء، جزاء التكذيب والعناد الشديد المتصلب، العناد غير السوي ولا في موضعه، عناد لم يأت بخير على من اتصف به في تلك الحقب التاريخية، وهو بكل تأكيد لن يأت بخير على من يتصف به اليوم وغداً.. ثم يذكر الله عقاب أهل القرية المكذبة بثلاثة رسل، الذين أرسلهم الله إليهم في فترة وجيزة، ولم تزدد القرية غير عناد وتصلب واعتداد بالرأي، فعاقبهم الله بالصيحة (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) وانتهت القرية للأبد.

العناد.. حركة في دائرة مغلقة

إن عقلية العناد تؤدي بصاحبها في النهاية إلى مساحات من التفكير عقيمة لن تكون عواقبها سليمة مطلقاً، إنها عقلية أشبه بمن يسير في دائرة مغلقة، يبدأ من نقطة ليعود إلى النقطة التي بدأ منها، في حركة مستمرة لا فائدة منها، بل ربما عواقب استمراريتها غير سارة ولا محمودة.

لاحظ مثلاً قوم نوح – عليه السلام – وكيف أن العقلية العنيدة العقيمة والمستهترة في الوقت نفسه، جلبت لهم الأذى، وأي أذى، طوفان أغرقهم وأهلك الحرث والنسل وأبادهم للأبد، وهكذا هي عقلية العناد، التي يمكن أن تؤذي صاحبها دون أن يدرك ذلك.
بعد أن طالت مدة دعوة نوح – عليه السلام – لقومه إلى دين الحق، واجهوه بقسوة، واعتبروا أن دعوته تلك ما هي إلا نوع من الجدال الذي طال عن اللازم، وعليه أن ينتهي منها، بل عنادهم جعلهم يطلبون منه أكثر من ذلك، إن كان صادقاً فعلاً في دعوته، وأنه مرسل من عند الله، حيث طالبوه أن يسأل الله أن يأتيهم بالذي كان يخوفهم منه (فأتنا بما تعـدنا إن كنت من الصادقين) أي العذاب والنقمة الإلهية كما كنت تزعم يا نوح!،

ربما يتساءل أحدكم ها هنا: لماذا طلبوا العذاب والنقمة؟، لماذا لم تدفعهم عقولهم العنيدة المتكلسة أن يطلبوا من رسولهم أمراً طيباً غير العذاب؟، ماذا لو أنهم طلبوا سعة فورية في أرزاقهم، أو أن تتحول بعض الحجارة حولهم إلى ذهب وفضة مثلاً، أو غيرها من نعم الله الكثيرة؟، لا شك أن وصولهم لذلك المستوى من الغباء حتى في الطلبات، إنما هو نتاج طبيعي لعقلية العناد التي ما وصلت إلى تلك المستوى عندهم، إلا بسبب فراغ روحي عاشوه وتوارثوه جيلاً بعد جيل.

الأمر أو المشهد نفسه تكرر بعد آلاف من السنين في عهد النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – مع قريش، الذين كانت عقلية العناد عند صناديدهم وكبار الرؤوس فيهم، وصلت حداً ربما فاقت عقليات الأقدمين من القرون الأولى، قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم، سأل أحد كبرائهم ضمن معرض العناد والاستهزاء في الوقت نفسه، النبي الكريم – عليه الصلاة والسلام – أن يثبت لهم أن ما يقوله حق وصدق وأنه نبي مرسل من عند الله، بأن يسأل الله نزول العذاب عليهم، كأن تمطر السماء عليهم حجارة!.

لولا عقلية العناد التي أغلقت كل منافذ التدبر والتفكر عند ذاك الجاهلي، لكان طلب من الله أن يمطر عليهم ذهباً وفضة بدلاً من حجارة، فإنها بكل تأكيد ستفيدهم وتزيدهم غنى، لكن كما أسلفنا، الخواء أو الفراغ الروحي الذي عاشه أولئك القوم ورفضهم الحق، نتجت عنه عقلية عنادية لمجرد العناد.

العنيد لا يرى غيره ولا يسمع إلا صوته ولا يعتقد أن هناك من يفكر سواه، أو هكذا هو غالباً، عقلية العناد منشؤها الرئيسي في البيت، فربما طريقة التربية أو القدوات الأساسية هناك كانت على تلك الشاكلة من الأخلاق، فيكبر الطفل عليها، ثم تلزمه الصفة وهو خارج إلى مجتمعات المدرسة ثم الجامعة فالعمل وبقية مجتمعات حياته، وتتعاظم الصفة معه يوماً بعد آخر، وما لم يتداركه أحد بواجب التنبيه والعلاج، فالاحتمال الأكبر أن يخرج فرعـون بصـورة ما، لا يتردد لحظة في تكـرار المشاهد الفرعونية، ومنها مشهد (ما أريكم إلا ما أرى)، وما أكثر الفراعنة حولنا اليوم، فادع الله ألا تتورط مع أحدهم.