التفت علماء المسلمين إلى الأقوال والأفعال والأحوال الصادرة عن النبي عليه الصلاة والسلام ولحظوها بعين فاحصة فقسموها إلى قسمين رئيسين: قسم كان وحيا ابتداءا، وقسم منه ما سبيله الوحي في الانتهاء أو غير ذلك.

 الأول: ما كان وحيا من السنة النبوية ابتداء وانتهاء.

تحت هذا القسم أنواع كثيرة تجمعها آية في سورة الشورى وهي قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم) (الشورى:51)

قوله تعالى: (إلا وحيا) تندرج تحته أنواع من الوحي، ومن ذلكم:

– الرؤيا الصادقة، فرؤية الأنبياء وحي كما قال عبيد بن عمير التابعي الكبير، وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ) رواه البخاري برقم (4953).

– ما يلقى في روعه عليه الصلاة والسلام، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإن روح القدس – يعني جبريل صلى الله عليه وسلم – نفث في روعي وأخبرني أنها لا تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها) رواه معمر في جامعه برقم(20100).

 

– (أو من وراء حجاب): كما في حادثة ليلة المعراج من تكليم الله عز وجل للنبي عليه الصلاة والسلام.

– ( أو يرسل رسولا): إما أن يتمثل الملك رجلاً فيكلم النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جبريل وسؤاله عن الإسلام والإيمان والاحسان.

أو يأتيه الملك على هيئته الحقيقية، كما حصل أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل مرتين على صورته. أو يأتيه جبريل بالوحي في مثل صلصلة الجرس… وهذا أشد أنواع الوحي على الإطلاق كما قال عليه الصلاة والسلام.

ورجح الإمام السيوطي[1] – وهو الذي قطع به أبو شهبة[2] – القول بأن القرآن الكريم كله نزل في الحالة الأخيرة التي يكون فيها جبريل على خلقته، ومن ثم تشتمل السنة النبوية على بقية أنواع الوحي السابقة ، لتكون مؤكدة لما جاء في القرآن، ومبينة له، أو تستقل ببيان حكم جديد غير مذكور في القرآن.

 الثاني: ما كان وحيا من السنة النبوية انتهاء ومآلا

ثم لم تزل السنة النبوية زاخرة بمساحة أخرى لا تعد من الوحي ابتداءا ولا جليا، كالسنة التى ترد في مورد الفتيا والقضاء والإمامة والأمور الإرشادية والجبلية مثلا، وخاصة تلك الآراء والاجتهادات الصادرة عنه عليه الصلاة والسلام، وهل تبقى له العصمة في هذه الحالة أو نقول سنته كلها وحي فالعصمة حاصلة على كل حال؟

ومن حيث أصالة الرأي: فإن صحة الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم خلاف مشهور في كتب أهل العلم قديما وحديثا، لكن الحق الظاهر فيه هو جواز الاجتهاد مطلقا، سواء في الأمور الغيبية أو الدينية أو الدنيوية، وعليه مذهب جمهور العلماء سلفا وخلفا، وهو أسعد المذاهب بالأدلة وأقربها لواقع النصوص المشيرة لذلك، ولأن الاجتهاد من سيم وظائف الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام كما في صفحات القرآن الكريم وصحيح السنة.

ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام عند أحكام مناسك الحج: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت”[3] وأن فيه تلميحا واضحا أنه عليه الصلاة والسلام ممنوح له الاجتهاد، لكن السؤال المهم هو:

هل كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوما في اجتهاده؟

قال الخطابي: وأكثر العلماء متفقون على أنه قد يجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطأ فيما لم ينزل عليه فيه وحي، ولكنهم مجمعون على أن تقريره على الخطأ غير جائز.[4]

يفهم من كلام الخطابي أن ثمة أقلية من العلماء ربما يرون عصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن الخطأ في الاجتهاد، ويؤكد ذلك ما أشار إليه الزركشي أن ذلك وارد في الأحكام، حيث يقول:” قد يجوز صدور القول عن اجتهاد … وإن صدر عن الاجتهاد لأنه صلى الله عليه وسلم كان معصوما عن الخطأ في الأحكام فإذا كان معصوما عن الخطأ محروسا عن الزلل كان مصدورا منه محكوما بصحته مقطوعا بذلك فلذلك حرمت المخالفة”[5]

والتحقيق أن اجتهاده عليه الصلاة والسلام مهما يكون فإما أن يقر عليه بالوحي، وإما أن يسكت عنه تقريرا، وإما أن يصوب إن اختار خلاف الأولى – ولا نقول أخطأ تأدبا مع جنابه عليه الصلاة والسلام- وفي جميع الأحوال فالعصمة باقية في حقه عليه الصلاة والسلام، حتى المسائل قيل عنها إنه أخطأ فيها لو عدت ربما لا تبلغ عدد الأصابع.

يقول الشَّاطبي: “فإن الحديث إما بوحي من الله صرف، وإما اجتهاد من الرسول – عليه الصلاة والسلام – معتبر بوحي صحيح من كتاب أو سنة، وعلى كلا التقديرين لا يمكن في التناقض مع كتاب الله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ﴿ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4]، وإذا فُرِّع على القول بجواز الخطأ في حقه فلا يقر عليه البتة، فلا بد من الرجوع إلى الصواب، والتفريع على القول بنفي الخطأ أولى ألا يحكم باجتهاده حُكمًا يعارض كتاب الله تعالى ويخالفه”.[6]

ولله در البزدوي الحنفي ورحمه عندما يقول معتذرا عن سبب فتح هذا الملف:” ولولا جهلُ بعضِ الناسِ والطعنُ بالباطلِ في هذا الباب لَكانَ الأولى منا الكفّ عن تقسيمِه، فإنه هو المتفرّدُ بالكمال الذي لا يُحيطُ به إلا اللهُ تعالى.”[7]

محل الطعن في السنة الاجتهادية

يأتي الطعن بالباطل في هذا الباب من حيث الظنون باحتمال الخطأ والصواب في السنن النبوية المبنية على الاجتهاد، بيد أن ذلك محجوج بالإجماع المنقول على عدم إقراره عليه الصلاة والسلام على الخطأ.

وهناك طعن آخر من قبل أصحاب المنهجية الفكرية الجديدة في التفريق بين السنن الصحيحة الواردة في القضايا العقدية والدينية من جهة وبين الأمور الدنيوية من جهة أخرى، فاجتهاده عليه الصلاة والسلام في أمور الدنيا لا يعد عندهم من قبيل الوحي وإنما سموه أحيانا بالسنة غير التشريعية، وعمدتهم في ذلك منطوق حديث صحيح “أنتم أعلم بأمر دنياكم”[8] وفي رواية:” إذا كان شيء من أمر دنياكم: فشأنكم، وإذا كان شيء من أمر دينكم: فإلي”[9] وهو حديث سيق في حادثة تأبير النخل المشهور، وجعلوه قاعدة عامة فيصلية بين أمور الدين والدنيا، فسنته عليه الصلاة والسلام – على طريقهم – فيما عدا العقيدة والعبادة إنما صدرت جراء الاجتهاد والتجارب والتدابير الإنسانية والخبرات البيئية لا أكثر.

لكن حجتهم في هذا الحديث حجة داحضة من حيث المنظورين: في النظر إلى القائلين وإلى المقول.

فأما القائلون: أكثرهم ليسوا من العلماء المتضلعين من كنوز العلم الشرعي المتقنين لطرق الاستنباط،  ومن يتمذهب بذلك الاتجاه من أفاضل العلماء المعاصرين لا نشك في حسن نياتهم لكن لم يكن الحق حليفهم مع رجاء لهم أجر الاجتهاد إن شاء الله تعالى.

وأما المقول: خطورته الوبيل لا تخفى، لأن حقيقته في النهاية الدعوة إلى فصل الدنيا عن الدين،  وماذا نفعل بكتب السنة النبوية الصحيحة  الطافحة بأبواب المعاملات والآداب والسياسة ونحوها… وكيف يجعلون الحديث الوحيد حكما أمام قطعيات النصوص الناطقة بوجوب طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام…منها قوله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وعموم هذه الآية محفوظة لا مخصوصة، وأمثالها تراها كثيرة في الكتاب والسنة.

علاوة على أن العلماء الأوائل لم يتفقهوا فقه الحديث على نحو الذي يقرأه أهل زماننا من أدعياء التجديد الدينى وفق إملاءات الحضارات الحديثية، ومن مناهج أئمة الإسلام في شرح الأحاديث هو جمع جميع روايات حديث الباب بغية لفهم المراد منه، فانظر قول ابن معين :”لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه ”[10]، وقول الإمام أحمد : ”الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا’[11] فما أبعد البون بين قراءة أولئك وبين قراءة الكتاب الجدد للسنة النبوية.

لا ينبغى غض الطرف عن بقية ألفاظ حديث تأبير النحل مع تركيز فقط على لفظة “أنتم أعلم بأمور الدنيا”… بل ورد في لفظه أيضا “إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذونى بالظن” مما يدل على أنه عليه الصلاة السلام يشير إلى أنه لم يكن نبيا مزارعا، لكن الصحابة أخطأوا في الفهم وقدموا ظن النبي صلى الله عليه وسلم على يقينهم الزارعي.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية” وهو لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم؛ كما غلط من غلط في ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود”[12]

ولما لا يفهم الحديث على ضوء ملابساته وتنقيب عن محيطه الذى لا يكاد يتعدى قضية العين، قضايا حرفية وصناعية وفنية، لا عموم قضايا دنيوية.

وفي مقال”السنة وحي من رب العالمين في أمور الدنيا والدين” لفضيلة الأستاذ الشريف حاتم عارف العونى. بيان واف لمن يريد فهم واسع عن حديث ” أنتم أعلم بأمور دنياكم”.

نعم، ثمة أمور في السنة النبوية لا مدخل للوحي فيها أساسا مثل الأمور الجبلية كالأكل والشرب والمشي والنوم ونحوها، أو العادة كاللباس واللقاءات والسكن وكل ما تقتضيه الشؤون البشرية، ومع ذلكم لا تخلو مهيمنة الوحي على بعض الجوانب منها، كما في حرمة الأكل بالشمال والنهي عن القزع وعدم جواز المشى في نعل واحدة وغير ذلك مما سبيله محض العادة والجبلة في الأصل.

وإذن فالسنة النبوية ترد بهيئات مختلفة منها ما مستندها الوحي الصرف، ومنها ما سبيلها الاجتهاد ابتداءا والوحي انتهاءا، بل كل سنته عليه الصلاة والسلام تشريعية من الله تعالى، ولكن ليست كلها ملزمة.


[1] – ينظر: كتاب القرآن المبين وكيف نزل به الروح الأمين للدكتور محمد بحيرى إبراهيم

[2] – ينظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم لمحمد أبي شهبة

[3] – رواه البخاري برقم (1651).

[4] – أعلام الحديث 1/225

[5] – قواطع الأدلة في الأصول 2/105

[6] – الموافقات 4/335

[7] – كشف الأسرار شرح أصول البزدوي

[8] – رواه مسلم برقم(2363).

[9] – رواه أحمد برقم(12544).

[10] – الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/212

[11] – المصدر السابق

[12] – مجموع الفتاوى 18/ 12