وردت بالقرآن الكريم آيات كثيرة تحضّ على السير في الأرض والنظر في أحوال من سبق؛ لأخذ العبرة والاستبصار بأحوالهم، حتى نستفيد من ذلك في الواقع الحي الذي يجري ويتشكّل، وفي المستقبل الذي يطلّ من خلف الحُجب.. وذلك مثل قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ ۚ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ} (الروم: 42)، وقوله أيضًا: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (غافر: 82) .

 

وفي سياق آخر من هذه الأوامر والتوجيهات استخدم القرآن الكريم كلمة (السُّنَن)، بما لها من معان عديدة مهمة، تلقي الضوء على أبعاد هذا الأمر الإلهي.

فما هي السُّنة؟ وما أهميتها في تشكيل العقل المسلم؟ وهل لها دور في تخطي العقبات ومواجهة الأزمات؟

جاء في (مقاييس اللغة): (سَنَّ) السِّينُ وَالنُّونُ أَصْلٌ وَاحِدٌ مُطَّرِدٌ، وَهُوَ جَرَيَانُ الشَّيْءِ وَإِطْرَادُهُ فِي سُهُولَةٍ. وَالأَصْلُ قَوْلُهُمْ سَنَنْتُ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِي أَسُنُّهُ سَنًّا، إِذَا أَرْسَلْتَهُ إِرْسَالاً. والسُّنَّةُ، السِّيرَةُ. وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: سِيرَتُهُ([1]).

وجاء في (لسان العرب): سَنَّ الطَّرِيقَ سَنًّا وَسَنَنًا، فَالسَّنُّ الْمَصْدَرُ، وَالسَّنَنُ: الِاسْمُ بِمَعْنَى الْمَسْنُونِ. والسنة الطريقة. والسنة: السيرة، حسنة كانت أو قبيحة. وقد تكرر في الحديث ذكر السُّنَّةِ وما تصرَّف منها. والأصل في السنة: الطريقة والسيرة؛ وإذا أُطلقت في الشرع فإنما يراد بها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ونهى عنه وندب إليه قولاً وفعلاً مما لم ينطق به الكتاب العزيز([2]).

إذن، السُّنَّة تدل على الاطراد والتكرار. وهي: الطريقة المُتَّبَعَةُ في الخير والشر.

ومن الجدير بالملاحظة والاعتبار أن الأمر الإلهي بتأمل سنن السابقين قد جاء في أعقاب معركةٍ تُعَدّ، من الناحية الإجمالية، من المعارك التي هُزم فيها المسلمون، وهي غزوة أحد، وحدثت لهم فيها خسائر ليست بالقليلة.. قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 137، 138).

جاء في (معالم التنزيل): قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) قال عطاء: شرائع. وقال الكلبي: مضت لكل أمة سنة ومنهاج، إذا اتبعوها رضي الله عنهم. وقال مجاهد: قد خلت من قبلكم سنن بالهلاك فيمن كذب قبلكم. وقيل: سنن أي: أمم. وَالسُّنَّةُ: الأُمَّةُ؛ قال الشاعر:

مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِكُمُ وَلَا رَأَوْا مِثْلَكُمْ فِي سَالِفِ السُّنَنِ([3]).

وقال ابن كثير، في الآية نفسها: يقول تعالى مخاطبًا عباده المؤمنين الذين أُصيبوا يوم أُحد، وقُتل منهم سبعون: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي: قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين. ولهذا قال: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)([4]).

فالسُّنة تعني الطريقة والمنهج. وهي أمر له اطراد وتكرار. وبسبب هذا الاطراد والتكرار نحن مأمورون بتأمل ما سبق من أحداث ؛ لأنها ستكرر وفق قواعد وأسس ثابتة. ومن الغفلة- حينئذ- أن نتجاهل ما سبق، ظانِّين أن ما مضى قد ذهب وانتهى إلى غير رجعة، وأن ما يأتي يكون منفصلاً عما مضى!

وهذه الغفلة هي من الصفات المذمومة التي يتصف بها المنافقون، وعَابَها عليهم القرآن الكريم بقول: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126). قال ابن كثير: “لا يتوبون من ذنوبهم السالفة، ولا هم يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم”.. (وكلام ابن كثير هنا يؤشر على “الملمح المستقبلي” من دراسة السنن والتجارب والأزمات).

ولعل هذا يأخذنا إلى الجدلية التي دارت حولها نقاشات كثيرة، وهي: هل التاريخ يتكرر؟ التي لا يُقصَد منها أبدًا تكرار التاريخ بشخوصه وأحداثه، كأنه “فيلم سينمائي” يعاد بثه.. فهذا فَهْم ساج! وإنما المقصود أن التاريخ يتكرر في عِبَره ودروسه وسُنَنه.

فلو لم يكن التاريخ يتكرر، في عبره ودروسه وسننه؛ لَمَا كان للأمر بالنظر في سنن السابقين وأحوالهم، فائدة!

وهنا نشير، إلى مصطلح آخر ورد في سياق مغاير عن المعاني التي نحن بصددها، وهو تعبير (استدارة الزمان)، الذي ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشهر الحرم، وما كان العرب يحدثونه فيها من تلاعب بالحِلِّ والحُرمة ومن تأخير لأشهر الحج، حتى استدارت الحرمة في جميع أشهر السنة، وليس فقط في الأشهر  المعروفة.. فحجَّ النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ووقف في شهر ذي الحجة، أي في الشهر المخصص لذلك أولَّ الأمر؛ أي أن زمان الحج قد استدار ورجع لأصله الصحيح، فلا نسيء بعد ذلك.

روى الشيخان عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خَلَق الله السموات والأرض، السنة: اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حُرُم؛ ثلاثٌ متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادَى وشعبان”.

فالزمان هنا كأنه إطار دائري يتحرك فيه الإنسان، مما يشير إلى إمكانية تكرار النقاط التي مر بها المرء من قبل.. تمامًا مثلما تتكرر الشهور والفصول كل عام، والأيام كل أسبوع.

صحيح أن هذا التكرار لا يأتي كأنه (نسخة طبق الأصل)، أو لا يكون تكرارًا (سُكونيًّا، حَرْفيًّا)؛ وإنما يكون تكرارًا بنكهة خاصة تتناسب مع الظرف الجديد.. وتكرارًا في العبر والدروس، كما أشرنا.

وقد التقط هذا المعني بديع الزمان سعيد النورسي، وهو يحث المسلمين على الأمل وعدم اليأس، وعلى إدراك أن الزمان كما يشهد إخفاقات يشهد انتصارات، وأن الأولى كما تتكرر فالثانية أيضًا تتكرر؛ ولا داعي للقلق المفرط، أو اليأس القاتل، أو النظر للتاريخ بسكونية وعدمية.. يقول رحمه الله في تشبيه بليغ: “فانظروا إلى الزمن؛ إنه لا يسير على خط مستقيم حتى يتباعد المبدأ والمنتهى؛ بل يدور ضمن دائرة كدوران كرتنا الأرضية؛ فتارةً يُرِيَنا الصيفَ والربيع في حال الترقي، وتارة يرينا الشتاء والخريف في حال التدني. وكما أن الشتاءَ يعقبه الربيعُ، والليلَ يخلفه النهار؛ فسيكون للبشرية ربيع ونهار إن شاء الله، ولكم أن تنتظروا من الرحمة الإلهية شروقَ شمسِ حقيقة الإسلام؛ فتروا المدنيَّة الحقيقية في ظلِ سلامٍ عام شامل”([5]).

فالمطلوب من العقل المسلم هنا:

ــأن ينظر في أحوال السابقين، ويدركها جيدًا.. فهذا مطلب قرآني.

ــأن يعرف أن التاريخ يتكرر، وفق سُننٍ وعبر لا تتخلف.. لكنه تكرار الحيوية، لا الجمود.

ــأن يعلم أن عدم إدارك السُّنن نوعٌ من الغفلة، يُوجِب تكرارَ الأخطاء والوقوع في الحُفَر ذاتها.

ــأن يتحلَّى بالأمل، مُتخِذًا من “السُّنن” طريقًا ومنهجًا ونورًا.


([1]) “مقاييس اللغة”، ابن فارس، 3/ 60، 61، دار الفكر.

([2]) “لسان العرب”، ابن منظور، 5/ 624، 625، دار الفكر.

([3]) معالم التنزيل، البغوي، 245، دار ابن حزم.

([4]) “عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير”، أحمد محمد شاكر، 1/ 384، الكتاب العالمي.

([5]) “الخطبة الشامية”، النورسي، على موقع نافذة النور www.nafizatalnoor.com.