تحدثنا في المقالين السابقين، الأول والثاني، عن أهمية الأخلاق والإعلام في حياتنا، وعن الصلة الوثيقة التي يجب أن تكون بينهما.. كما تحدثنا عن أهم الأخلاق المطلوب توافرها في المنظومة الإعلامية.

وفي هذا المقال الثالث والأخير نتناول الصعوبات التي تجعل المجال الإعلامي لا يتفق والقيم الأخلاقية؛ التي ينبغي أن توجه حياتنا، وتحكم سلوكياتنا.. ونختم بالإشارة إلى أهم الخطوات التي يمكن أن نحقق من خلالها عملاً إعلاميًّا يرتكز على الأخلاق ولا ينفصل عنها.

الصعوبات التي تعترض صلةَ الأخلاق بالإعلام

ثمة صعوبات تعترض صلة الأخلاق بالإعلام، وتجعل من العسير أن يندرج الطرف الثاني تحت مظلة الأول.. ومن هذه الصعوبات:

1 – الأخلاق فَرعٌ من الفلسفة بينما الإعلام يعمل في الواقع:

يرى بعض الباحثين أن “هناك خصومة بين الأخلاقيات الصحفية والصحافة؛ لأن الأخلاقيات هي فرع من الفلسفة، حيث إن الفلسفة تتعامل مع قضايا نظرية بينما الصحافة تعمل في الواقع، وتقوم بتصويره. فمعظم الإعلاميين ينظرون إلى الأخلاقيات على أنها مجموعة من المبادئ والنظريات الفلسفية المعقدة والتي يصعب تطبيقها، وأنها تتناقض مع ظروف العمل الإعلامي ومتطلباته”([1]).

2 – سَعْي السلطة السياسية للسيطرة على وسائل الإعلام:

الأنظمة السياسية – لاسيما في عالمنا العربي- تعمل دائمًا على السيطرة على وسائل الإعلام، وتحويلها إلى أبواق دعاية لها، بحيث تعبِّر عن النظام الحاكم بأكثر مما تعبر عن نبض الجماهير وتطلعاتها.. مما يباعِد بين الإعلام والأخلاق.

إن “الربيع العربي” شاهد صدق على دور الإعلام في الإطاحة بنظم ديكتاتورية، وشاهد صدق أيضًا على الضريبة الغالية التي يدفعها الإعلاميون

وهذا يأتي إدراكًا من تلك الأنظمة للدور المهم الذي يؤديه الإعلام في تشكيل الوعي، والتأثير في اتجاهات الرأي العام؛ فالإعلام الحر هو صداع مزمن في رأس تلك الأنظمة.

إن “الربيع العربي” شاهد صدق على دور الإعلام في الإطاحة بنظم ديكتاتورية، وشاهد صدق أيضًا على الضريبة الغالية التي يدفعها الإعلاميون من دمائهم حتى تصل الحقيقة إلى الجمهور؛ فقد تخضبت بلاد الربيع العربي بدماء إعلاميين بذلوا للحقيقة حتى آخر قطرة دم في عروقهم، وكانت “الكاميرات”- فضلا عن رءوسهم!- مستهدفة في فض اعتصامي رابعة والنهضة في مصر كما لو كانت هي بحد ذاتها من المحظورات!! وقد ارتقى وأصيب في فض هذين الاعتصامين عدد من الإعلاميين والمصورين، فضلاً عمن اعتقل منهم([2]).

ومن العجيب أن الدول العربية التي أمَّمت الاقتصاد والإعلام عقودًا من الزمن، طبقًا للنظام الاشتراكي الذي تبنته آنذاك، قد تحولت الآن للرأسمالية في الاقتصاد دون الإعلام، ومازالت مصرَّة على امتلاك قنوات وصحف! ولو كانت جادة في رأسماليتها لكانت طبقت على الإعلام ما رضيته في الاقتصاد؛ لكنها تعلم أن الإعلام يعني لها أكثر من مجرد أدوات إخبار، إنه سلاحها المعنوي للسيطرة على العقول، حتى وإن استطاع الإعلام الجماهيري- مثل “فيس بوك” و”تويتر”- ومن قبلُ الفضائيات، أن يكسر احتكار الإعلام بصورة ما.

3 – ارتباط الإعلام برأس المال:

فالإعلامي- بخلاف أصحاب مِهَن أخرى كثيرة، مثل الطبيب والمحامي- لا يستطيع أن يمارس عمله بمفرده، بل لابد له من نافذة يطل منها على الجماهير، وهذه النافذة تكون تكلفتها عالية؛ مما يجعل الإعلاميَّ يرتبط بصورة أو بأخرى بمن يملك المال.. ومن المعلوم أن الأخلاق هي آخر ما يمكن أن يأخذه رأس المال في اعتباره!

ولعل ارتباط الإعلام برأس المال يشكل مشكلة جوهرية في بِنْيَة العمل الإعلامي، من الصعب الفكاك منها.

وقد رأينا في مصر على سبيل المثال، أن عددًا من رجال الأعمال قد أنشأوا فضائيات وصحفًا، لتخدم مصالحهم، وتكون متحدثًا رسميًّا بهم… ولنا أن نتخيل كيف يتناول إعلاميٌّ بوسائل الإعلام هذه قضية فساد تورط فيها مالكُها! بل وصل الأمر ببعض رجال الأعمال إلى أن قدم “رشوة مقنعة” لبعض الإعلاميين الذين هاجموه في قضية انحراف مالي، بأن منحهم برنامجًا على فضائيته أو زاوية في صحيفته مقابل مبلغ مالي أقرب إلى الخيال!

ثمة فرقٌ غير محدود بين حرية الرأي – التي هي لازمة للإعلام المتميز- وبين العدمية والعبثية واستباحة القيم والمقدسات

وهذا الأمر يعكس وجهًا آخر للانحراف الإعلامي، وهو أن بعض الإعلاميين يتخذ من منبره وسيلة لابتزاز رجال الأعمال، وليس كما يزعم للدفاع عن مصالح الشعب والمال العام!!

يقول هاتلنج: “إن حرية الصحافة هي من أجل الشعب، ويجب الدفاع عنها ضد أي انتهاك أو اعتداء من أي جهة؛ سواء أكانت عامة أم خاصة. وعلى الصحفيين أن يكونوا يقظين دائمًا، وأن يتأكدوا من أن كل ما يهم الجمهور يجب أن يتم علنًا، وعليهم أن يكونوا حذرين من أي شخص أو جهة تحاول استغلال الصحافة لأغراض شخصية”([3]).

كيفية التغلب على هذه الصعوبات

من أهم الخطوات العملية للتغلب على الصعوبات التي تحول دون ارتباط الإعلام بالأخلاق:

1 – إنشاء وسائل إعلام عن طريق الاكتتاب العام، أو من أموال الضرائب ويشرف عليها هيئة مستقلة؛ مثل تجربة الـ BBC القسم الإنجليزي، لا العربي فهو يتبع وزارة الخارجية البريطانية، ويتماهى مع سياساتهات في المحصلة!

2 – فصل التحرير عن الإعلان؛ حتى لا يقع الإعلامي تحت الإغراء أو الابتزاز الإعلاني.

3 – ضمان الحقوق المالية للإعلامي بصورة تكفل له الحياة الكريمة، وتحصِّنه من الاستجابة للغضوط غير الأخلاقية.

4 – العمل على حماية الإعلاميين من تغول النظم السياسية، بتفعيل النصوص الدستورية والقانونية التي تضمن حرية الصحفي وسلامته الشخصية، خاصة في الأزمات.

5 – تفعيل الدور الرقابي والتشريعي للهيئات والمجالس النيابية، وعدم التقاعس عن إيقاع العقوبة المناسبة على الإعلاميين المخالفين.

6 – إصدار تقارير دورية لتقييم التزام وسائل الإعلام بميثاق الشرف الإعلامي، وتعميم هذه التقارير؛ لتؤدي دورها في التوجيه والضغط المعنوي الأدبي على من لا يلتزم بالميثاق.

7 – رصد جائزة سنوية لأفضل إعلامي وأفضل وسيلة إعلامية التزمًا بميثاق الشرف الإعلامي.

خلاصات

وهكذا في ختام هذه المقالات الثلاثة يمكن لنا أن نخلص إلى أن الأخلاق فريضة من فرائض الأديان، وضرورة من ضرورات المجتمعات؛ وأن الإعلام- مقروءًا، أو مسموعًا، أو مرئيًّا- جزء من حياتنا، بل فاعل رئيس فيها؛ ولذا، فما لم يرتبط الإعلام بالأخلاق فإن نسيج المجتمع وقيمه مهدَّدان بالانهيار.

كما اتضح لنا أن “الموضوعية” قيمة جامعة تندرج تحتها جملةٌ من الأخلاق والممارسات الإعلامية المنشودة- مثل: الصدق، التثبت، النزاهة، الفصل بين الخبر والرأي- وأن احترام حق الرد، مع حق الإعلامي في التعقيب، من القيم الأخلاقية المهمة؛ فالحرية التي تتيحها التشريعات للإعلاميين، ليس غرضها أن يكونوا في منأى عن المسئولية والمساءلة، بل لأنهم عين المجتمع وضميره.

ولذلك، فثمة فرقٌ غير محدود بين حرية الرأي – التي هي لازمة للإعلام المتميز- وبين العدمية والعبثية واستباحة القيم والمقدسات.


([1]) د. خالد القحص، الأخلاقيات المهنية للصحافة، مصدر سابق.

([2]) ذكر موقع “مبتدأ” أن عددًا من الصحفيين والمصورين تعرضوا للاعتداء خلال تغطيتهم لأحداث فض اعتصامى ميدان “رابعة العدوية” و”النهضة”، والذي جرى في 14 أغسطس 2013م؛ الأمر الذي أدى لاستشهاد عدد منهم، في حين أصيب البعض الآخر.

ومن الصحفيين الذين استشهدوا: حبيبة عبد العزيز، جريدة جلف نيوز الإماراتية، استشهاد برصاصة في الرأس. مصعب الشامي، شبكة رصد، استشهاد برصاصة. أحمد عبد الجواد، صحفي بالأخبار، استشهد خلال فض اعتصام رابعة. والمراسل الأجنبى مايكل دين، سكاي نيوز، استشهاد برصاصة.

فيما أصيب كل من: أسماء وجيه، رويترز، إصابة برصاص حي في القدم. أحمد النجار، المصري اليوم، رصاصة في ذراعه. علاء القمحاوي، المصري اليوم، إصابة برصاص حي في القدم. رابط الخبر: http://www.mobtada.com/news_details.php?ID=93047

([3]) هاتلنج، أخلاقيات الصحافة، ص: 33.