كان استخدام الأصوليين لمصطلح ( الاستقراء) متأخرا بإزاء استخدامهم لأنواع الأدلة الأخرى، فأول من قام بتعريف الاستقراء من الأصوليين، الغزالي ” ت 505″ فقال في تعريفه : ” تصفح أمور جزئية ليُحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزيئات ” إلا أن تأخر شيوع ( المصطلح) لا يعني تأخر استخدامه على المستوى العملي.

ما المقصود بالاستقراء؟

والاستقراء بهذا المعنى، هو الاستدلال بما وُجِد من حكم مطرد في أفراد معينة بعد تكرار ملاحظة أحوالها، على أن ذلك الحكم ليس مقصورا على تلك الأفراد، بل هو يتعداها لغيرها من الأفراد، بحيث يصبح أمرا كليا شاملا لهذه الأفراد ولنظائرها”

فمثلا، حتى يصل العلماء إلى قاعدة ( الأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني ) قاموا بعملية استقراء على عينة من العبادات، وليس جميع العبادات، فوجدوا من خلال هذه العينة أن الطهارة تتعدى محل موجبها، فإذا انتقض الوضوء بخروج الريح مثلا، فإن ذلك يوجب غسل جميع أعضاء الوضوء لا غسل محل الريح فقط.

ووجدوا أن الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة، إن خرجت عنها لم تكن عبادات.

ووجدوا الموجَبات فيها تتحد مع اختلاف الموجِبات، فالحيض والنفاس يسقطان الصلاة، ولا يسقطان الصوم ولا سائر العبادات المفروضة من أركان الإسلام.

وألفوا بعد الملاحظة أن الذكر المخصوص في هيئة ما مطلوب، وفي هيئة أخرى غير مطلوب،  فالقنوت -وهو ذكر ودعاء- يطلب في بعض الصلوات دون بعض، والدعاء يطلب في السجود لا في الركوع، والنوافل تطلب في أوقات وتمنع فيما بعد صلاة الصبح إلى أن تشرق الشمس مثلا، وهكذا من أوقات النهي، وكل هذا لا يعرف إلا بإخبار من قبل الوحي، وليس للعقل فيه مجال.

كما أسفرت الملاحظة عن أن طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النطافة بغيره، فلا يجوز الوضوء ولا الغسل بغير الماء الطهور، ولا بأي مطهر آخر غير الماء، وأن التيمم -وليست فيه نظافة حسية- يقوم مقام الطهارة بالماء الطهور.

كما وجدوا أن الصيام والحج،  فيهما من الأمور المحدودة التي لا يُفهم تحديدها من غير الشرع، ولا يستقل العقل بإدراك حدودها وحكمها.

فتوصل الفقهاء من إجراء هذه العيِّنة إلى قاعدة كلية، هي ( الأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني) وإلا فلماذا لا يجوز الوضوء والغسل إلا بالماء مع ظهور مزيلات حديثة قد تكون أقوى في إزالتها من الماء؟ وإلا فلماذا يكون القنوت في – وهو دعاء- بعد الرفع من الركوع أو قبله، ولا يكون في السجود، مع أن السجود أرجى أوقات العبادة ؟

مشكلة الاستقراء

 لكن ما الضمانة التي تضمن هذا الإطلاق ( الأصل في جميع العبادات)؟ مع أن عينة فقط من العبادات هي التي خضعت للاختبار؟

والاستقراء باعتباره أداة من أدوات المعرفة ليس خاصا بالعلوم الدينية، بل هو كذلك في الطبيعيات وغيرها، فالفيزيائيون حينما قالوا،” الحديد يتمدد بالحرارة” لم يُخضعوا جميع قِطَع الحديد للاختبار، بل اكتفوا بإخضاع عينة من الحديد، قلَّت أو كثرت، فما الأساس العلمي الذي من خلاله حكموا على الحديد غير الخاضع للتجربة بهذا الحكم؟

والسؤال عن الأساس العلمي لحجية الاستقراء يسمى في نظرية المعرفة، بمشكلة الاستقراء.

توصل العلماء إلى أن هناك مجموعة من القوانين الكونية والمنطقية تمثل الأسس لحجية الاستقراء، وتجيب عن هذه المشكلة، لردم ثغرة حجية الاستقراء، هذه الأسس هي :

الأساس الأول : قاعدة الاطراد.

الأساس الثاني : مبدأ التعليل.

الأساس الثالث : قانون التلازم.

الأساس الرابع : مبدأ التسوية بين المتماثلات.

قاعدة الاطراد

المراد بالاطراد،”ثبوت الترابط بين ظاهرتين بحيث تكون إحداهما متبوعة بالأخرى” كحصول الشبع ضرورة عقيب الأكل، والري عقيب الشرب، والاحتراق عند مماسة النار.”

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية مبينا أن التعرف على كثير من السنن الإلهية يتم عن طريق الاطراد : ” ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس واطراد فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها؛ والاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره كالأمثال المضروبة في القرآن وهي كثيرة” [جامع الرسائل لابن تيمية – رشاد سالم (1/ 55)]

مبدأ التعليل

وهذا المبدأ إنما كان أساسًا يستند إليه التعميم؛ لأن الاقتران المتكرر الحاصل بين أمرين، إذا ظهرت له علة، فإن الحكم على الكلي يجب أن يستند إليها؛ لأن العلة إذا ثبتت عم الحكم، يقول الغزالي : ” اعلم أن العلة إذا ثبتت، فالحكم بها عند وجودها حكم بالعموم، فإنه إذا ثبت أن الطعم علة انتظم منه أن يقال : كل مطعوم ربوي “.

وهذا الأمر ليس خاصا بالأحكام الشرعية، بل هو عام في كل شيء، ولهذا توصل المناطقة المعاصرون الباحثون في علوم الطبيعة إلى أن السببية من أسس الاستقراء، وذلك أن الاقتران الحاصل بين أمرين، لا يمكن حمل تكرره وثباته في مجموعة كبيرة من العينات، لا يمكن حمله على الصدفة. والله عز وجل لا يخلق حادثا إلا بسبب حادث.

قانون التلازم

المراد بقانون التلازم، هو كون الشيء بحيث يلزم من وجوده وجودُ شيء آخر،  كوجود الدخان، يلزم منه، وجود (النار)،  ووجود النهار، يلزم منه طلوع الشمس.

يقول ابن تيمية : ” الحقيقة المعتبرة في كل برهان ودليل في العالم هو اللزوم، فمن عرف أن هذا لازم لهذا استدل بالملزوم على اللازم وإن لم يذكر لفظ اللزوم ولا تصور معنى هذا اللفظ.

بل من عرف أن كذا لا بد له من كذا، أو أنه إذا كان كذا كان كذا وأمثال هذا فقد علم اللزوم؛ كما يعرف أن كل ما في الوجود فهو آية لله؛ فإنه مفتقر إليه محتاج إليه لا بد له منه، فيلزم من وجوده وجود الصانع.

وكما يعلم أن المحدث لا بد له من محدث كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} الرد على المنطقيين (ص: 252)

مبدأ التسوية بين المتماثلات

المقصود بهذا المبدأ : أن المماثلة بين الأشياء توجب التسوية بينهما في الحكم.

وثبوت المماثلة لا تتحقق إلا بعد السبر الصحيح الذي ينفي الفوارق غير المؤثرة، ويبقي حيثيات التماثل الجوهرية، والتشابه في المقومات الأساسية التي توجب التسوية في الحكم. فالمماثلة لا يراد بها مطلق التشابه، وإنما المراد بها : التشابه فيما يُعَدُّ المصدر الحقيقي للحكم ومناطه.

يقول ابن القيم : ” ومدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين؛ فإنه إما استدلال بمعين على معين أو بمعين على عام، أو بعام على معين، أو بعام على عام؛ فهذه الأربعة هي مجامع ضروب الاستدلال ،فالاستدلال بالمعين على المعين هو الاستدلال بالملزوم على لازمه، فكل ملزوم دليل على لازمه، فإن كان التلازم من الجانبين كان كل منهما دليلا على الآخر ومدلولا له. [إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 102)].