نحن أمام مصطلحين مهمين، يكثر استخدامهما والنسبة إليها، هما: الفكر والعمل..

أما الفِكْرُ فهو: إِعمالُ العقلِ في المعلوم للوصَول إلى معرفةِ مجهول (المعجم الوسيط). وأما العمل فهو: كلُّ فعلٍ يكون بقصد (المفردات للأصفهاني). وهو إذا أُطلِقَ يغلب على أفعال الجوارح؛ بخلاف الفكر فهو عمل العقل. وقد يقال: العمل الذهني.

ونحن نلاحظ أن الناس بين حظوظ متفاوتة من هذين الأمرين.. فمنهم من ينصرف جهده لعمل العقل، يجيده ويحسنه؛ بينما لا يكون له الحظ نفسه من عمل الجوارح، حتى ربما لا يستطيع تدبير شئون نفسه..!

والعكس صحيح؛ فقد نرى البعض يجيد الفعل والإنجاز، بينما لا يَصْدر في ذلك عن فكر ولا روية، ولا يحسن التفكير في عواقب الأمور.. وقد يكون مندفعًا في أمر، فيحصل له خلاف ما أراد، أو لا ينال مراده على الوجه المأمول.

والحضارات أيضًا، كما الناس، يمكن أن نراها من هذه الزاوية..!

فالحضارة اليونانية وُصفت بأنها حضارة تأملية تجريدية، لم تنطلق من الطبيعة ولا من الفعل، وإنما من الذهن والعقل.. بينما الحضارة الإسلامية تميزت بأنها حضارة تجريبية، ولهذا لم تغرق في مشكلات ذهنية عقيمة إلا حينما اتصلت بالتراث اليوناني، ثم أدركت نفسها وأبدعت المنهج التجريبي الذي ورّثته للبشرية من بعد.. كما خلص لهذه المقارنة مفكرون كثيرون، منهم المستشرقة زيغريد هونكة.

ولا يعني قولنا إن الحضارة الإسلامية لم تكن حضارة تجريدية، أنها تضاد العلم أو تحطّ من عمل العقل؛ فقد كان أول ما أنزل من القرآن الكريم قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1)، بما تعنيه هذه القراءة من: فهم، وملاحظة، ومقارنة، وتدبر، واستنتاج؛ وهي العناصر الذي سيتأسَّس عليها لاحقًا “المنهج التجريبي”..

غاية الأمر، أن الحضارة الإسلامية لم تحصر نفسها في عمل العقل، ولم تترك المِقْوَد ينفلت منها لتدخل في متاهات عقلية عقيمة، وسفسطات لا طائل من ورائها..!

ولعل من الجدير بالملاحظة هنا، أن كلمة العقل (الاسم) لم ترد في القرآن الكريم، وإنما وردت وظائف العقل (الفعل)- يتفكَّرون، يَعقلون، يتدبَّرون، يَنظرون، يفقهون- فكأن المراد هو الخروج إلى فضاءات الفعل وآفاقه، وليس الوقوف عند الاسم واللفظ، والانحصار في مفاهيم جامدة.. (قرأت هذه اللفتة الذكية عند د. أحمد صدقي الدجاني رحمه الله، ولا يحضرني الآن اسم كتابه)

يقول (بريفولت) في كتابه (إنشاء الإنسانية): “إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس في الكشوف المدهشة أو النظريات التي ثارت على القديم؛ وإنما يدين علمنا للثقافة العربية بما هو أكثر من ذلك؛ إنه يدين لها بالفضل في وجوده هو نفسه، فالعالم القديم كما رأينا كان في مرحلة ما قبل العلم؛ فعلوم الفلك والرياضيات عند الإغريق كانت استيرادًا من الخارج، ولم تتأقلم أبدًا أو تمتزج بالثقافة الإغريقية؛ فقد وضع الإغريق أنظمة وأحكامًا عامة ونظريات، ولكن أساليب البحث الدائبة الصبورة، وتركيم المعارف الإيجابية، ومناهج العلم الدقيقة، والملاحظة الطويلة التفصيلية، والبحث التجريبي، كل ذلك كان غريبًا تمامًا عن المزاج الإغريقي.. أما ما نسميه على وجه الحقيقة باسم العلم، فقد ظهر في أوروبا نتيجة لروح جديدة في البحث، ونتيجة لمناهج جديدة في الفحص والاستقصاء، هي مناهج التجربة والملاحظة والقياس، ونتيجة لتطور الرياضيات بشكل لم يعرفه الإغريق. هذه الروح وهذه المناهج كان العرب هم أصحاب الفضل في إدخالها إلى العالم الأوروبي (نقلاً عن: تجديد الفكر الديني في الإسلام، محمد إقبال، ترجمة محمد يوسف عدس، ص: 215، 216).

ونستطيع أن نقول إن الانفصال بين الفكر والعمل هو أحد أهم مشكلاتنا المعاصرة، التي تعوق نهضتنا من جديد، وتجعلنا غافلين عن أسباب النجاة، وعوامل النهوض..

فمن بيدهم الفكر والنظر والبحث، لا يملكون من أمر العمل والتخطيط والإدارة شيئًا..!

ومن يقومون بالتنفيذ والفعل وسياسات الأمور، لا يتوافر عندهم العلم الكافي، ولا المعرفة الصحيحة، ولا ينطلقون من رؤى استراتيجية أو من تصورات واضحة..!

كما أن من يشتغلون بالأفكار لا يضعون في اعتبارهم تقديم أفكار عملية؛ أي أفكار تصلح لأن تتحول إلى برامج، لا أن تظل حبيسة السطور والأدراج.. وهذا هو بيت القصيد؛ فالأفكارُ بِعَمَلِيَّتِها؛ أي بقدرتها على أن تتحول للعمل، أو بقدرتها على أن تنتج عملاً..

ولا شك أن إنتاج “إفكار عملية” يتطلب أمرين أساسيين:

– الاطلاعَ الواسع البصير على الواقع، المحيطَ بتفاعلاته، المدرِكَ لتشابكاته.

– التحليَ بالمرونة وعدم الجمود على فكرة أو رؤية أو تصور.. وإنما تقليب الفكر على الواقع حتى ينعدل الواقع على الفكر.

وهنا، أسارع بنفي أن تكون هذه السطور دعوة لأن يصير الواقع هو المقياس، أي الانجراف على نحو ما تدعو إليه البراجماتية..! لا، فالبراجماتية (أو العَمَلانِيَّة) وإن كان أصلها صحيحًا، فإنها انحرفت إلى اللاأخلاقية، وعدم الالتزام بأية قيم، وعدم الوقوف عند حدود الآخرين وحقوقهم، بحثًا عن “المنفعة” أيًّا كانت وسيلتها..!

أما “العملية” التي نريد أن نُزاوِجَ بينها وبين “الأفكار”، فإنها تبحث عن المنفعة المشروعة، والمصلحة المنضبطة.. وهي تنشد الحلول القانونية، وتهدف لتفعيل القيم لا الجمود عليها، فضلاً عن تجاوزها..

لقد أشار القرآن الكريم لشيء من ذلك في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ} (الأعلى: 9)؛ حيث جعل المبدأَ أو القيمةَ أو الفكرةَ (وهو التذكير والأمر بالمعروف)، مرتبطًا بالنتيجة (وهي حصول التذكر).. ومن القواعد المقرَّرة أن الضرر يُزال، وأنه لا يزال بمثله ولا بأكبر منه؛ فإن ترتب على النهي عن المنكر منكر مثله أو أشد، فلا يلزم النهي.

أليست هذه إشارات وتوجيهات لأن نراعي في تطبيق أفكارنا ومبادئنا المنحى العمليَّ، ولا تكون الأفكار مجردَ تصوراتٍ في فراغ، بعيدةَ الصلة عن الواقع وعن المآل؟!

لقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله تعالى في مكة ثلاثة عشر عامًا، ثم جاء الإذن بالهجرة للحبشة ثم للمدينة.. ولم يكن ذا جدوى أن يظل صلى الله عليه وسلم بدعوته في مكة، بل ربما قُضِي على الدعوة في هذه البيئة، لولا أن الله تعالى كتب لدينه الغلبة والانتشار..

إن الدعوة في مكة ليست هدفًا بحد ذاتها، وإنما الهدف الأساسي هو التمكين للإسلام، ولا بأس أن يأتي هذا التمكين في أي بقعة من بقاع الله.. هنا، نرى الهدف واضحًا، ووسيلتَه متحركةً مرنةً غيرَ جامدة..

تُرى، هل يحسن المسلمون التفرقة بين الهدف والوسيلة؟! وهل يحددون الهدف بمراعاةٍ للبيئة التي يتحركون فيها، أم يَمضون حسب تصوراتٍ نظريةٍ لا نصيب لها في عمل أو نجاح؟!