يمكن أن نلاحظ وجود صوتين بارزين عند التعامل مع أي أزمة من أزماتنا المعاصرة، خاصة تلك التي تحدث دويًّا كبيرًا وتعاطفًا يمتد لمساحة عريضة من وطننا الإسلامي.

أحد هذه الأصوات يركز عما يجب على الأمة فعله، وما يخص من يمسكون بزمام القيادة فيها؛ من مسئولين وعلماء ومفكرين.

والصوت الآخر يركز على دور الفرد، وأنه لا صلاح للأمة إلا بصلاح أفرادها؛ ومن ثم، تجب مساءلة الأفراد لأنفسهم قبل أن يُسائلوا الحكام وأولي الأمر.

والحقيقة، أن هذين الصوتين يجب أن ننظر إليهما بتكامل، لا بتعارض؛ وألا نركز على أحدهما هربًا من الآخر، كما يفعل البعض للأسف! فما أكثر من يركزون على دور الأفراد هربًا من الإشارة لدور المسئولين، أو العكس([1]).

الأمة- بمسئوليها، ومفكريها، وعلمائها- عليها دور في مواجهة الأزمات؛ والأفراد أيضًا عليهم دور؛ وكلٌّ مسئول حسب إمكاناته. ولذا، جاء في الحديث الشريف: “كلكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته”([2]).

نعم، قد يتم التركيز على دور الأمة؛ لأننا في الأزمات والكوارث نكون بحاجة ماسة للحل الفوري، والعلاج السريع؛ لكن خطورة هذا الأمر أنه يصيب بالإحباط واليأس- وربما الانتكاس- حينما نرى الأمةَ ولأسباب كثيرةٍ عاجزةً عن اتخاذ الخطوة المناسبة، وفعل ما يلزم فعله.

هنا، يكون المجال فسيحًا للشبهات، والتشكيك، وتزييف الوعي!

فإذا كنا مثلاً بصدد هجمة شرسة على غزة، أو عدوان سافر على الشعب السوري، أو أهلنا في الموصل؛ ثم لم نجد رد فعل مناسبًا للعدوان، ومكافئًا لطاقات الأمة؛ فإن المجال يكون مفتوحًا- خاصة أمام الشباب- للاستجابة لنزغات اليأس والإحباط، والتشكيك في فاعلية الأمة أو وجودها أصلاً! فضلاً عن تزعزع الثقة في الإسلام ذاته!

والحل في مثل هذه الأزمات أن ندرك بأنه كما على الأمة- بمختلف مستوياتها- مسئولية، فإن على الأفراد مسئولية. ولا ينبغي أن يكون تقاعس الأمة مبرِّرًا لتقاعس الأفراد.

صحيح أن طبيعة دور الأمة يختلف اختلافًا نوعيًّا وكميًّا عن طبيعة دور الأفراد؛ لكن يظل لكلٍّ دورٌ عليه القيام به.

فالأمة يتمثل واجبها في التصدي للعدوان، ونصرة المظلوم، وبذل طاقات الفعل لا الخطب والمؤتمرات، وعدم الاكتفاء ببيانات الشجب والإدانة! وهذا هو الحل الفوري، الذي يظهر أثره بمجرد نشوب الأزمة.

أما دور الأفراد فيتمثل في إصلاح النفس ومن يعول، وتعزيز الوعي بالأزمة وأبعادها، ونشر الفاعلية في المحيط- مهما بدا محيطًا صغيرًا- وإتقان العمل حتى يكون كلُّ فرد عنوانًا مشرفًا لرسالته.. وهذا الدور يؤتي أُكله على المدى البعيد؛ ولعل هذه الطبيعة هي ما تدعو إلى التقليل من شأنه، والتركيز بقوة على دور الأمة ذي التأثير الفوري.

إن عمر الأمم والشعوب يختلف عن عمر الأفراد؛ ولذا، فإن معالجةَ داءٍ في الطرف الأول يستغرق من الوقت أضعاف ما يستغرقه لمعالجة داء في الطرف الثاني. ونهضة الأمة، وإصلاح ما اعتور مسيرتها من خلل؛ لن يتم بين يوم وليلة.

فإصلاح الأمة، وإيقاظها من غفوتها، وسدُّ الثغرات التي تراكمت على مدى عقود؛ يحتاج لزمن عريض، ولجهود حثيثة. هي معركة نفس طويل بالدرجة الأولى. وليس صحيحًا أن إيقاظ الأمة يتم بخطبة عصماء، أو بقرار فوقي، أو كتابة مقال، أو تنظيم مؤتمر، أو إصدار بيان شجبٍ وإدانة.

كلما استفحل الداء- كما في حالتنا- فإن الزمن المطلوب أكبر، والجهد الواجب أكثر مما نظن.

ولذا، كان الصبر- مع بذل الجهد- أحد الأدوات المطلوبة لاستحقاق النصر: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128).

إن الله سبحانه وتعالى سيسأل كل فرد عما قدم، وعما فعل بما وهبه من قدرات وإمكانات- ولا يخلو أحدنا من ذلك- فهل يليق بنا أن يكون الجواب: لقد تركت ما ينبغي فعله؛ لأن الآخرين لم يقوموا بما عليهم؟!

نحن بحاجةٍ لوعي جيد بـ”فقه الأزمات”، لندرك أن كلاً من الأمة والأفراد عليه دور، ولا يغني أحدهما عن الآخر، وتقاعس أحدهما ليس مبررًا للقعود والخمول.

وإذا كان أحدنا يتحرّق ألمًا، ويتقطع أسى، لغياب دور الأمة الفاعل؛ فإن هذا التحرق ينبغي أن يتحول لطاقة إيجابية، بحيث يزيد المرء من دوره؛ وعيًا بأبعاد الأزمة، وتحركًا في مساندتها في محيطه وبما يملك من أدوات مهما كانت محدودة.

أما أن يكون الأسى لغياب دور الأمة سببًا في ترك العمل، وتسرُّبِ اليأس للنفس، والشك للفكر؛ فإن من يفعل ذلك ينضم لقافلة المتقاعسين، ويُحسب ضمن من خذلوا المظلومين!

لقد عبّر موقف أنس بن النضر في غزوة أحد- لما أشيع مقتل النبي - تعبيرًا صحيحًا عن الوعي المطلوب تجاه دور كلٍّ من القيادة والأفراد في الأزمات؛ فلئن غابت القيادة- أو غُيبت- فإن دور الفرد يبقى قائمًا ومطلوبًا.

قال أنس رضي الله عنه لمن ترك السلاح حين علم بوفاته : “ما تصنعون بالحياة بعده؛ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله”([3]).

ويمكن لنا أن نقول: إذا كانت الأمة قد غاب دورها الفاعل فيما نواجه من أزمات، وإذا كان المسئولون قد قصروا فيما ينبغي عليهم فعله؛ فإن أفراد الأمة عليهم بذل الجهد بأقصى ما يملكون، دون التفات لتقصير غيرهم. وذلك استعدادًا لخوض معركة طويلة الأمد، من إصلاح الذات ورد العدوان.

وليس هذا القول صرْفًا للأنظار عما يجب على مسئولي الأمة- كما يفعل البعض من أصحاب الخطابات المزيفة للوعي- بل هو تنبيه على أن لكلٍّ دورًا وواجبًا عليه القيام به، وأن وسط ما يجب على الأمة فعله هناك ما يجب وما يمكن للأفراد فعله.


([1]) في هذا الصدد، أشير إلى أن داعيةً ذا شعبية كبيرة وإسهام جيد في إطلاق المبادرات الجماعية، لم يجد- نتيجة لتغير الظروف السياسية- إلا أن يدعو للمبادرة الفردية، بعد عدة كوارث في بلده! وكان عليه أن يلفت النظر لتقصير المسئولين، أو على الأقل أن يدعو لمبادرات جماعية تستنهض الهمم والنخوة! لا أن ينضم لمن يزيفون الوعي، ويبرئون المسئولين بالعزف على نغمة: مسئولية الأفراد!

([2]) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر.

([3]) دلائل النبوة للبيهقي، غزوة أحد، الحديث رقم 1129.