إن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باتت أمرا تكتنفه أغلوطات كثيرة بدءا بالظن أن القيام بهذا الشأن من مهمات الدولة، ولها أن تعين من يقوم بهذا الدور في المجتمع ممن يوصفون بـ “مطوع” أو داعية .. ويحتج بتفسير خاطئ للحديث “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان “، وهذه الفئة ترى أصل خطاب الإنكار في الحديث ينصرف لذوي الهيئات والولايات العامة من الناس، ويلحق بهم ذوو الولايات الخاصة على مرتكب المنكر، مثل الوالد مع ولده، والزوج مع زوجته، والرّاعي في رعيِّته.

 

ويذهب البعض الآخر إلى تفصيل أدق من هذا، ويرى أن إنكار المنكر باليد يستدعي الضرب والحبس والهدم ونحوه مما لا يكن لآحاد المسلمين القيام به، لذلك يختص هذا النوع من الإنكار بالدولة وأعوانها بما لهم من السلطة العامة، وأما الإنكار باللسان فإنه يكون بالعظات والنصيحة ويختص بذلك العلماء لسلامة لسانهم، وقوة استحضارهم للشواهد القرآنية والأحاديث النبوية، ويرجع الإنكار بالقلب وهو الصنف الثالث إلى عامة المسلمين، وهذا التفكير المقلوب تأويل غير سائغ أدى إلى تعطيل هذه المهمة وتحجيم سعة التدين في المجتمع.

هذا الحديث أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولا كان أو فعلا

 

وما نعايشه اليوم خير دليل على هذه الظاهرة حيث تظهر بين الفينة والأخرى أفكار وافدة وشخصيات إعلامية موهومة تشكك في أصول الدين وضرورياته، ولا يكون لها صادع مانع، أو زاجر رادع .. وغدا القائمون بهذا الشأن فئة قليلة يتم تعيينهم غالبا كهيئة تخضع لسياسة الدولة، وتحظر على عالم كائنا من كان أن يتجاسر على هذا الأمر إلا بمرسوم رسمي من الدولة.

والأمر بالمعروف خاصية هذه الأمة والأمم التي جاءت قبلها، وركن أساسي من أركان الإسلام، وأحد شروط صلاح هذه الأمة وخيريتها، وسبب نصرها وتمكينها في الأرض، وتعطيل هذا الركن أو حصر تنفيذه على فئات معينة يؤدي إلى ضياع التدين في المجتمع، وانتشار الفساد، وذهاب الخيرات، وقلة المؤونات، ومحق البركة في الدعوات.

 

والشرع لم يخاطب الدولة بمسؤولية الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر ، بل بأي أمر من أمور الديانة والدنيا على وجه الاختصاص إلا في إطار خطابه العام للأمة ولجميع المسلمين، وتدخل الدولة في هذا المعنى العام بالتبعية، وهذا ما يظهر واضحا من قوله عليه الصلاة والسلام : “من رآى منكم منكرا ..”، فهو خطاب موجه لجميع المسلمين، يتفاضل اعيان الناس فيه حسب القدرات والإمكانيات، ويتعين على الرائي والمدرك أولا قبل غيره، وتنطبق فرضية الخطاب أصالة على الأمة جمعاء، وعن هذه الأصالة يتفرع الاختصاص بقدر ما تستدعيه المصلحة وتمليه الظروف وبقدر ما تختاره الأمة من التفويض والتوكيل والتنظيم كما أشار الدكتور الريسوني في كتابه الأمة هي الأصل.

هذه المراتب المذكورة تصف طرق الإنكار المتاحة للمؤمن القائم بإنكار المنكر، ولا تتعلق بأوصاف المغيِّر

 

وحين بدأ الحديث النبوي بلفظة (من) الدالة على العموم فإنه يؤكد على أهمية الأمر بالمعروف وصرف وجوبها  إلى جميع المسلمين جماعات وأفرادا ، أئمة ورعاة، خاصتهم وعامتهم، فلا يسقط هذا الأمر عن أحد إلا بعذر أو جهل، لذلك صنفت وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن الواجبات الكفائية وهي أعلى منزلة من الواجبات العينية من حيث المصالح التي تستجلبها.

 

وتضمن هذا الحديث مراتب إنكار المنكر، بدأ بأعلاها مرتبة وهي التغيير باليد، يليها في الرتبة الإنكار باللسان، ثم الأدنى منهما الإنكار بالقلب. وهذه المراتب المذكورة تصف طرق الإنكار المتاحة للمؤمن القائم بإنكار المنكر، ولا تتعلق بأوصاف المغيِّر، كونه واليا أو غيره، قويا كان أو ضعيفا، عالما أم غيره، ويدرج في هذه المراتب حسب المكنة والاستطاعة، فالمرتبة الأولى أكمل في التغيير دون الأخيرتين، ولا يعدل عن الاكمل إلى الأدنى إلا عند العجز وعدم المكنة والقدرة.

 

وفي هذه المراتب دلالة قوية وحاسمة على المسارعة إلى القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باستعمال جميع الطرق الممكنة، وعدم الاستنكاف بأي حال من إزالة المنكر حين يظهر، ويتساوى فيه القادر وغير القادر. يقول القاضي عياض: هذا الحديث أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولا كان أو فعلا فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه أو يأمر من يفعله وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره إذا أمكنه.

ويتبادر من عرف الشرع حين قدم الإنكار باليد قبل غيره أن صفة التغيير حقيقة في إزالة المنكر باليد وهو الأصل، وما سواه مثل الإنكار باللسان والإنكار بالقلب بديل عنه لا يصار إليه إلا عند قيام عذر وهو العجز وعدم القدرة، ونتعامل معهما تعاملنا مع التيمم عند فقد الماء، ولا يجوز للقادر ترك الإنكار باليد بدعوى أنه اختصاص الولاة ونوابهم.

لا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين قال إمام الحرمين والدليل عليه إجماع المسلمين

يقول النووي : قال العلماء ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين قال إمام الحرمين والدليل عليه إجماع المسلمين فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية.

 

وإن الصورة الحقيقية للإنكار الفعلي هو إزالة المنكر عن الوجود، ولا يتمكن من هذه إلا بالتغيير باليد ، لذلك جاء في المرتبة الأولى، وجاء عامل الإنكار باليد في الحديث بلفظة التغيير(.. فليغيره)  صراحة دون تلميح، ولم يقع هذا التصريح في الإنكار باللسان أو بالقلب، كما لا يمكن أن نقدر (فليغيره) عاملا في الإنكار اللساني أو القلبي، لأنهما لا يعبران في الواقع عن حقيقة التغيير، فإن أثر التغيير باليد ظاهر بالإزالة، وأثر التغيير باللسان في التذكير وإسداء النصيحة، وأثر القلب أضعف في هذا المعنى، لذلك لجأ العلماء إلى تقدير (فلينكره) في الإنكار اللساني، وفي القلب يقدر له (فليكرهه) بقلبه.

 

وبما أن الكراهة بالقلب أثرها في الواقع أضعف في إزالة المنكر وتغييره، والشرع لا يريده أصالة إنما أرشد إليه من باب التخفيف والتيسير، فمن رأى منكرا ولم يقدر بيده او بلسانه فإن كره بقلبه وأبغض المنكر جاز، يقول العز بن عبد السلام : ولا شكّ أن التقرّب بالكراهة، ليس كالتقرّب بالذي ذكره قبله، ولم يُذكر ذلك للذمّ، وذُكر ليعلَم المكلّف حَقَارة ما حصل فِي هَذَا القسم، فيرتقي إلى غيره.