“الأمم تنتحر ولا تُقتل” “الحضارة حركة وليست حالة”. مقولتان تُلخّصان نظرية الفليسوف أرنولد توينبي توينبي -أشهر المؤرخين في القرن الـ20-  الذي تمكّن بفضل نظرياته في فلسفة التاريخ من تحديد عناصر بقاء 7 حضارات ما زالت على قيد الحياة من بينها الحضارة الإسلامية -ولكنها تسير نحو الانحلال – وذلك  من أصل 21 حضارة انتحرت.

هذا الفيلسوف الإنجليزي (1889-1975) يعدّ من رواد فلسفة التاريخ الذين درسوا عوامل نهضة الأُمم وانحطاطها في المُجتمعات والحضارات القديمة، انطلاقاً من خوفه على مصير الحضارة الغربية المعاصرة من الزوال، حيث قام بدرس الحضارات القديمة لا سيّما الحضارة الهيلينية لمعرفة أسباب تدهورها وانقراضها.

تٌعرف نظرية توينبي بـنظرية ” التحدي والاستجابة”  والتي تتمحور حول التحديات ودورها في استفزاز المجتمعات ومراحل تطورها أو اندثارها. وخلص إلى أن التحديات التي تبرز في المجتمعات تتطلب ردّة فعل من الناس كنوع من أنواع الاستجابة لحلّ هذه التحديات أو المشاكل، صاغ توينبي نظرته وفلسفته ونظريته في التاريخ التي اشتهر فيها في كتابه الضخم “دراسة التاريخ” والتي تعمل اليوم في كنفها المنظمات الأممية ضمن سياسة الاستجابة لتحديات العصر الحالي: الأمن، السلم، التنمية.

لقد قسم توينبي هذه التحديات بحسب نوعها إلى قسمين:

تحديات طبيعية: مثل المناخ والجغرافيا الطبيعية والموارد الطبيعية وغيرها. وهذه التحديات  بنظره هي دافع للإنسان لأن يُطوّر قدراته لتجاوز التحديات الطبيعية أو لاستغلال الموارد.

تحديات بشرية: مثل عدد وطبيعة السكان وثقافة المجتمعات.

أما من حيث المستوى، فقد رأى توينبي أن هناك 3  مستويات من التحديات:

تحد قاس: وهو غالباً ما يفوق طاقة وقدرة المجتمع على الابتكار ويعيقه من التقدّم،  مثال: المناخ القاسي الذي يتخطى قدرة شعوب الأسكيمو على تجاوزه.

تحد ضعيف: غير مُحفّزّ للإنسان ليُطوّر ذاته. مثل شعب نيوزيلندا، حيث قلة السكان ووفرة الموارد.

– وأخيراً التحدّي الخلاّق: وبسببه تُستفز طاقات الإنسان وتسعى الشعوب إلى تطوير معارفها وطُرق الاستجابة في سبيل التنمية.

 التحديات

ومهما تنوعت واختلفت مستويات التحدّيات، فإن الرهان يبقى على كيفية تفاعل المجتمعات والاستجابة لهذه التحدّيات، وهذا ما يحدد النتائج المستقبلية ومستوى تطوّر كل أمّة وتميزّها عن غيرها من الأُمم.

وإذا ما أردنا تفسير التحديات التنموية والسياسية التي تواجه المنطقة العربية اليوم، فإنه يمكن القول أننا في مرحلة – نأمل أن تُصنّف على مُستوى التحدّي الخلّاق- حيث أن بعض الشعوب العربية ثارت نحو التغيير  للأفضل فيما  النخبة الحاكمة سعت وما زالت تسعى للحفاظ على الوضع الراهن وفقاً لمصالحها.

ويعزو توينبي سقوط الحضارات إلى ثلاث عموامل – مستبعدا أن يكون ذلك أمرا حتميا –  هي:

  • ضعف القوة الخلاقة في الأقلية المبدعة وانقلابها إلى قوة تعسفية
  • تخلي الأكثرية عن محاكاة هذه الأقلية
  • الانشقاق وضياع وحدة كيان المجتمع

وهنا يمكن القول أن الصراع في المنطقة يُشبه الصراع الذي تحدّث عنه توينبي، وهو صراعٌ بين مشروع التجديد المتمثل بثورة الشعوب  وبين الشرعية التي تحاول النخبة الحاكمة فرضها بإسم القانون والضوابط، ما أودى بهذه الأخيرة إلى الوقوع  في فخّ الركود السياسي والاجتماعي والثقافي بدول الربيع العربي.

وعلى ما يبدو فإن الانتقال المتعاقب من حياة المجتمعات البدائية إلى الحضارية، ومن الركود إلى الحركة، ومن واقع سياسي إلى آخر هي سمةٌ يشهدها الواقع العربي اليوم، على أن التحوّل الحاصل في الأنظمة وفي طبيعة التحالفات، وتشكّل التنظيمات، يفرض علينا التنبّه لمعرفة مسار هذا الحراك، كما يستوجب إدراكنا للنتائج المستقبلية بالاستناد إلى كيفية تفاعلنا واستجابتنا للتحديات الحالية.

فهل المُسلمون والعرب اليوم في مرحلة حراك إيجابي يسير بالأمة نحو مجتمعات أكثر حضارةً؟ أم أنه حراكٌ سيؤدي بنا  إلى الإندثار والتهلكة لما نراهُ من مؤشرات الإنحطاط والتي تظهر في الذبح والقتل والاستبداد، وفرض الأفكار الشمولية بحدّ السيف.

ويبقى السؤال: هل فعلاً دخلت الحضارة الإسلامية في مرحلة الإنحلال – كما صنّفها توينبي-. وهل نحنُ أمّة على طريق الإنتحار أم أن هناك من يدفعنا لذلك؟ ألم يتحدّث الغرب عن سيناريو “الفوضى الخلّاقة”؟  لقد استجبنا للفوضى لكننا لم نتمكّن إلى الآن من الاستجابة فعلياً لجوهر التحدّي.