لمْ يحظَ (عبد الله النديم) بكل هذا الحب الجارف، والمكانة الكبيرة، لاسيما بين العلماء، والمفكرين، والمصلحين، والمجاهدين بضربة حظ ولا بالصدفة، بلْ كان أهلاً لها، وجديراً بها، فقد كان الإسلام شغله الشاغل، وقضيته الكبرى، ومشروعه الفكري الذي عاش من أجله كاتباً وخطيباً ومجاهداً، فكان تلميذًا نجيباً لجمال الدين الأفغاني في منهجهِ الإصلاحي ونزعته المقاوِمة، وترك بصمةً واضحة على جيل بأكمله، على رأسهم امصطفى كامل.

ذات مرة؛ وقف (النديم) خطيباً بأحد ميادين القاهرة، فاجتمع حوله الآلاف، وكان مما قاله: “علينا أن نعترف أنَّ ما وصل إليه حالنا نتيجة طبيعية ومنطقية، لأنه لا يمكن لأمةٍ مغلوبة أوْ مقهورة أن تحتل مكاناً لائقاً على الخريطة، فبالإيمان والعلم معاً قامت حضارتنا، وركع وسجد أمام نورها العالم كله، وبالتخلي عنهما تراجعت حضارتنا على هذا النحو المأساوي، إنَّ أُمتنا هي أمة العلم، بلْ هي الأمة التي علَّمتْ العالم أجمع وكشفتْ عنه حجب الظلمات، وليس من قبيل المصادفة أن تكون أول آية تتنزل من الوحي الكريم “اقرأ باسم ربك الذي خلق”!!

كان (النديم) شاعراً ثائراً، وكاتباً متعدد المواهب، وخطيباً فذاً من أعظم مَن عرفتْ مصر من الخطباء، وصحفياً لامعاً؛ يتخطَّف الناسُ صحفه فور صدورها، ومجاهداً لا مثيل له، فهو زعيم الثورة العرابية الحقيقي، عاش مجاهداً، ونصيرًا للمستضعفين، وعاشقاً للوطن؛ فبادله الشعب حبًا بحب، وإعجاباً بإعجاب؛ فمنحه ثقته وتعهد بحمايته! حتى إنَّ المسئولين في جهاز البوليس كانوا يتستَّرون عليه، ولا يكشفون مكان اختبائه، فمأمور مركز “السنطة” يقابله وجهًا لوجه، ولا يقبض عليه، مخاطراً بوظيفته! بلْ ويمنحه مالاً من جيبه ليساعده على الهرب! وكاتب مركز السنطة أيضًا، كان يعرف مخبأه، فيكتب إليه أبياتاً من الشِّعر، يقول فيها:

ولقد نذرتُ إذا لقيتكَ سالماً       ***   أُقبلنَّ مواطئ الأقـــدام

     ولأُثنينَّ على سجاياكَ التي ***  حثَّتْ على التحريرِ والإقدام

قول المؤرخون: النديم هو القائد الفعلي للثورة العرابية، فهو الذي نظَّم خلاياها السرية الأولى، وضمَّ إليها، أمثال: عرابي، وعبد العال حلمي، وعلي فهمي، وغيرهم.

وهو الذي جمع التوقيعات من أجل توكيل عرابي في الحديث باسم الأمة، وحشد الجماهير لتقف مع الجيش في ميدان عابدين في9 سبتمبر 1881م، وجعل الجيش والشعب يداً واحدة من أجل الثورة، وأفسد المخططات الرامية لعزل الشعب عن الجيش في الثورة العرابية!

وكان يذهب إلى الفلاحين في الحقول، وإلى الطلبة في المدارس والمعاهد والكتاتيب؛ يدعوهم إلى الثورة، ويحرضهم ضد الإنجليز!

ومما جاء في آخر خطبة له، قوله: (نحن نعاني منذ حقبة طويلة من داءٍ عضال، أضرّ بأمتنا ورسالتنا في الوجود، على الرغم من أننا أُمة وسطية مبتعثين لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وليس أحد سوانا قادر على انتشال سفينة البشرية التائهة في خضم المحيط إلى مرفأ السلامة وشاطئ الأمان).

أجل؛ إنه (عبد الله النديـــــم) الذي أصدر العديد من الصحف، مثل: التنكيت والتبكيت، واللطائف، والأستاذ، وغيرها؛ من أجل تسليح الجماهير بالوعي الوطني، والدعوة إلى الثورة ومهاجمة أعدائها. بلْ قام بتأليف التمثيليات والمسرحيات لتكون أداة التغيير الثوري، مثل: تمثليات “العرب” و”الوطن” و”طالع التوفيق” ليس هذا فحسب؛ بلْ قام بتدريب طلاب الأزهر، وأئمة المساجد على الخطابة الثورية!

لذا؛ كان من الطبيعي أن تضيق به سلطات الاحتلال، فتقوم بنفيه إلى “الآستانة” ليلحق بأستاذه جمال الدين الأفغاني، فيستمرا معاً في النضال إلى أن يموت (النديم) في منفاه!

له ديوان «سلافة النديم» الذي يحتوي على سبعة آلاف بيت، تتنوع أشعاره بين المقطوعات والقصائد الطوال، وجاءت قصائده امتداداً لحياته الوطنية، يقول على لسان الوطن:

إليكم يردُ الأمر وهو عظيم        ***  فإني بكم طول الزمان رحيم
إذا لمْ تكونوا للخطوب وللردى  ***  فمنْ أين يأتي للديار نعيم؟
وإنَّ الفتى إنْ لمْ ينازل زمانه    ***   تأخر عنه صاحب وحميم
فردوا عنان الخيل نحو مخيّمٍ    ***  تقلبه بين البيوت نسيم

عبد الله النديـم( 1845- 1896م) خاض عشرات المعارك الفكرية والثقافية؛ دفاعاً عن هوية الأمة العربية والإسلامية، منها (معركة لغة الضاد) التي بدأها بافتتاحية صحيفة (الأستاذ) قائلاً: “اللغة العربية إحدى مقومات الأمة، بلْ هي المقوم الأساس، لأنها سبيل توصيل العقيدة، والانفعال بها، وصياغة الأمة، وتنظيم نمط تفكيرها، وإعادة بناء نسيجها، وحماية ذاكرتها، وبناء سياجها الثقافي، والحيلولة دون اختراقه، لذا؛ لمْ يتنازل الإسلام عن أمر اللغة لأنها الميثاق الجامع، والصعيد المشترك، والقاعدة الثقافية والفكرية، والحصن العقلي للأمة، ووسيلتها إلى الترقِّي والنهوض، فالله –سبحانه- خلق أول ما خلق “القلم” وكانت أولى التعاليم السماوية، بعد الخلق الأول: تعليم الأسماء (وعلَّم آدمَ الأسماءَ كلها). وبدأت الرسالة الخاتمة بكلمة (اقـرأ). فالعربية اللسان، وليست الجنس ولا الجغرافيا.

وخاض (معركة التقدم والتخلف) وقد ندَّد فيها بالوجود الأجنبي في بلاد المسلمين، وطالب بالوحدة والتضامن العربي والإسلامي، فكتب يقول: “إنَّ العالَم من حولنا يجري بسرعة مذهلة، والفجوة بين العالم المتقدم والعالم الإسلامي تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم، وليس هناك مفر أمامه من التحرك السريع، والتصدي لهذه التحديات، والعمل بسرعة لتغيير هذا الوضع المتخلف، ولن يسعفنا في ذلك أو يساعدنا على الخروج من هذا المأزق الخطير قوة خارجية أو حتى غيبية، وإنما التغيير يجب أن يكون ذاتياً، منبعثاً من إرادة صادقة، فزمن المعجزات قد ولَّى، والقانون القرآني في التغيير يحدد لنا معالم الطريق حين يقول: (إنَّ الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم). ولا يجوز للمسلمين أن يكونوا مجرد متقبلين أوْ مستهلكين لمنتجات العصر وأفكاره، فدينهم العظيم يفرض عليهم أن يكونوا مشاركين بفاعلية في كل التطورات العلمية التي تخدم الإنسانية”. ومن أقوال النديم الشهيرة: (إنَّ المجد والنجاح والإنتاج تظل أحلاماً لذيذة في نفوس أصحابها، وما تتحول حقائق حية إلاَّ إذا نفخ فيها العاملون من روحهم، ووصلوها بما في الدنيا من حس وحركة)!

هذا؛ وقد ترك (النديم) أكثر من عشرين كتاباً في أغراض مختلفة، منها: «الساق على الساق في مكابدة المشاق»، و«كان ويكون»، و«النحلة في الرحلة»، و«المترادفات». والاحتفاء في الاختفاء، و”أمثال العرب”. و”موحِّد الفصول وجامع الأصول” وهو كتاب في اللغة، و”الفرائد في العقائد”، و”اللآلىء والدرر في فواتح السور”، و”البديع في مدح الشفيع”.

وللنديم أزجال ومواويل تتفاوت في مستواها الأسلوبي، وتتفق في نزعتها النقدية التحريضية مع شِعره الفصيح. كان شِعره السياسي، يدور حول الثورة والإصلاح، والدعوة إلى البعث والنهوض، والفخر بأمجاد أمته، ومعالجة القضايا الوطنية في عصره :

بني العُربِ هيّا لا يعيشُ جـبـــــانُ   ***  فجسمـي وروحـي هـمَّةٌ وجَنـانُ
أنـا النـار تذكـو غـيرَ أنَّ لهـيبهـا         ***  بـه العِرْض فـي وسط الـوجـود مُصان
أنـا الـدرَّة الـحسنـاءُ يعرف قـيمتي  *** شجـاعٌ له وقت النزال طِعـان
أنـا الجنةُ الفـيحـاء لابن شهـادةٍ      ***  ونـارٌ لـدَيْهـا الإنكلـيـزُ تهـان
أنـا الـدِّينُ والـدنـيـا لربِّ حماسةٍ     ***  له فـيـهـمـا بـيـن الأنـام بـيـان

هذا؛ وتعبِّر قصائده في مراحل اختفائه ونفيه عن آلامه وعذاباته، وحنينه للأيام الخوالي، كما في قصيدة (أأنسى يوم مصرٍ)؟ التي يخاطب فيها الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم– إثْر رؤيا منامية، إذْ يقول:

أأنسَى يـوم مـصرٍ والـبـلايــا          *** تطـاردُنـي ولا ألقى مُعـيـنـا؟
فكـنـتَ الغـيث فـي يـومٍ كريهٍ       *** أخـافَ الشهْمَ والـحَبْر السميـنا
وهل أنسـى هجــومَ الجند عصرًا  *** بـلا عـلْمٍ وقـد كـنـا فُجِيـنا؟       
أحـاطـونـا وسدّوا كل بـــابٍ           *** وصِرْنـا بـيـن أيـدي الـبـاحثـيـنا
فأدرَكَتَ الـوحـيـدَ وكـان صـيدًا       ***  قـريبًا مـن فِخـاخ الطـالـبـيـنا
وأرشدتَ النديـم إلى مكــانٍ          ***  رآه بعـد حـيرته مكـيـنــا