عندما سئل أينشتاين عن سر اهتمامه بالمستقبل رد قائلا : “ببساطة لأننا سنعيش بقية عمرنا هناك”. فهل نهتم نحن – كعرب وكمسلمين – بهذا الحيّز الزمني الذي يُعرّف بأنه “الآتي بعد الحال” ،أم اننا نفضل أن نعيش حاضرنا فقط ،ونهيم في غياهب الماضي؟ ولماذا ينشغل العقل العربي الإسلامي عموما بشؤون الماضي على حساب مشكلات المستقبل؟ هل يمنع الإسلام أو يحرّم الاهتمام بالمستقبل كما يروج له البعض تحت طائلة خطوط حمراء على غرار : التنبؤ والتوكل وعلم الغيب والقضاء والقدر؟

علم المستقبليات أو الدراسات المستقبلية هو علم يختص بالمحتمل والممكن والمفضل من المستقبل ،بجانب الأشياء ذات الاحتمالات القليلة الحدوث لكن ذات التأثيرات الكبيرة التي يمكن أن تصاحب حدوثها ،حتى مع الأحداث المتوقعة ذات الاحتمالاات العالية ،مثل انخفاض تكاليف الاتصالات ،أو تضخم الإنترنت ،أو زيادة نسبة شريحة المعمرين ببلاد معينة ،فإنه دائما ما تتواجد احتمالية “لا يقين” كبيرة ولا يجب أن يستهان بها. لذلك فإن المفتاح الأساسي لاستشراف المستقبل هو تحديد وتقليص عنصر الـ “لا يقين” لأنه يمثل مخاطرة علمية، وبالتالي نحن أمام معضلة كبيرة أنه لا يوجد لدينا ذرة من يقين على مستقبلنا.

يقول الدكتور وليد عبد الحي أن “إحدى ثغرات ثقافتنا العربية تتجسد في أحد أبعادها في موقفها من الزمن ،إذ طغى عليها الماضي والحاضر، بينما لم يحظ المستقبل “حيث سنعيش” إلا بأقل القليل ،رغم أن معرفة أو محاولة معرفة المستقبل تمثل أحد عناصر القوة”.ويقول الأستاذ المهدي المنجرة: “في الإسلام تستهدي حركة الإنسان، الاجتماعية والدينية ،بنتائجها الدنيوية والأخروية. وبهذا كان اعتبار المستقبل جزء من العمل اليومي للمسلم”.

بين ما يقوله الباحثان ،وهما من أقدر المتخصصين في مجال علم استشراف المستقبل ،هوة كبيرة تقود المجتمعات العربية والإسلامية إلى المجهول ،لأن الإحساس بالزمن عملية توقفت عن النمو في بيئتنا العامة ،في الوقت الذي نجد أن الإسلام يقوم على التخطيط اليومي للمستقبل بمعطياته الدينية والدنيوية وبأبعاده في الدنيا كما في الآخرة ،بعيدا عن المفاهيم الغيبية وكل ما تعلق بالقضاء والقدر والمكتوب وحيثيات التنبؤ.

علم المستقبل وعلم الغيب

عندما نتحدث عن علاقة الإسلام بالدراسات المستقبلة ،يجب أن نتفق أن استشراف المستقبل لا يعني علم الغيب. فقد أثبت تاريخ الدراسات المستقبلية أنها لا تصيب دائما ولا تخطئ دائما ،فهي ليست علوما دقيقة أو رياضيات ،كما أنها ليست فلسفة ،على الرغم من التطور الكبير الذي وصلت إليه ،خاصة في جانب تحويل الظواهر الطبيعية والسياسية “الكيفية” إلى أرقام ونسب وحسابات.

قد يكمن التعامل مع الدراسات المستقبلية في صورة التنبؤ مثلا بمعرفة جنس الجنين ما إذا كان ذكرا أو أنثى ،لأن ذلك يتم عن طريق جهاز علمي خاص قد يخطئ وقد يصيب ،على الرغم من التقنية العالية التي وضعت لهذا الغرض ،في حين أن الله عز وجل وحده الذي يعرف ما في الأرحام ،و بدون جهاز،وهذا هو الفرق بين القدرة الإلهية والقدرة البشرية ،بين منطق “كن فيكون” وبين قدرة البشر على الاجتهاد وتوقع حدوث الاشياء والاستعداد لها من خلال جملة من العوامل المتكاثفة التي تشكل في النهاية نتيجة منطقية لبحث ما على ظاهرة ما.

لقد تفاجأ العالم في الكثير من الحقب والعصور بظواهر غريبة وتغيرات عميقة ،لم يكن أحد يتوقع حدوثها ،لكن في مكان ما من هذا العالم كان هناك أناس لا يثقون كثيرا في الصدفة أو المفاجأة ،قضوا حياتهم بحثا عن الاحتمالات قليلة الحدوث كبيرة التأثير ،وأصدروا دراساتهم بناء على معطيات علمية بعضها ربما كان سببا في الوقاية من كوارث سياسية واجتماعية ،والبعض الآخر لم يجد الرعاية والاهتمام فتُرك للمجهول.

فلا أحد كان يتوقع انهيار امبراطورية عظمى كالإتحاد السوفياتي ،لكن هذا غير صحيح إلى حد بعيد ،ففي عام 1970 ،نشر المنشق السوفياتي أندريه أمالريك كتابه المشهور “هل سيبقى الاتحاد السوفييتي حتى عام 1984؟” ،وتوقع فيه أن ينهار الاتحاد السوفييتي عام 1984 ،وبنى توقعاته بعد تحليل الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وشبكة علاقات الاتحاد السوفياتي الدولية بخاصة مع الصين والولايات المتحدة ،ووضع احتمالين للشكل الذي سيأخذه الانهيار،ويمكن القول أن جزء من كل شكل هو ما وقع فعلا. فقد جاء غورباتشوف للسلطة عام 1985 وبدأ مسار الانهيار السوفياتي الذي اكتمل عام 1991.

الثقة في الاختصاص

ويبدو لي أن مسألة الاهتمام بالمستقبل حتى وإن تم اعتمادها كإستراتيجية للدولة الوطنية ،قد تصطدم بأحد المسلمات السائدة – للأسف- في أنظمتنا السياسية وهي عدم الثقة في “جهة الاختصاص” ،وهو أمر تكوّن نتيجة تراكمات سياسية واجتماعية لعقود من الزمن ،إذ أن أغلب وزراء الاقتصاد في بلداننا ،لا علاقة لهم بالاقتصاد وأغلب وزراء الخارجية لا علاقة لهم بالعلاقات الدولية ،بل أن بعض وزراء الرياضة ليسوا برياضيين!!

وبالتالي فإن الاعتماد على باحثين ومختصين في استشراف المستقبل قد يشكل “برستيجا” للدولة من حيث التمويل والتنظيم والتأطير ،ولكن عندما يأتي التنفيذ والأخذ بدراسات هؤلاء ،يصبح الأمر مجرد حبر على ورق ،مجرد بحوث تدفن في الأخير بمكتبات ضخمة مكيفة على مبدأ عدم التداول أو عدم الاهتمام.

وهنا تحضرني قصة أليمة للأستاذ الدكتور وليد عبد الحي – الذي حظيت بشرف أن أكون أحد تلامذته – وهو أستاذ سابق في معهد العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر ،وأحد الذين أدخلوا علم استشراف المستقبل للجامعات العربية. القصة تعود لمنتصف الثمانينات عندما تنبأ الدكتور في دراسة مستقبلية بانفجار أزمة التسعينات في الجزائر قبل حدوثها بست سنوات ،لكن السلطة السياسية آنذاك تعاملت – كما يقول- بـ”سخرية مُرة” مع نتائج دراسته. والنتيجة طبعا يعرفها الجميع ،عشرية سوداء ذهب ضحيتها ربع مليون جزائري وانهيار تام للدولة مس كل القطاعات ،وآثاره لا تزال ظاهرة اليوم للعيان.

المستقبل لمن؟

لا أحد يمكنه أن يشكك أن ديننا الإسلامي دين مستقبلي ويحث على ضرورة ضمان مستقبل صالح وزاهر لأجيالنا ،وهو – أي الإسلام – لا يدعو إلى الاهتمام بالتراث إلا من جانب الإعداد للمستقبل ،لأن تراثنا غني بدوافع النهضة والتطور ،والاعتماد على السلف الصالح دافع إضافي للنهوض بهذه الأمة بالحفاظ على تاريخها ووقاية حاضرها وضمان مستقبلها.

لكن أين نحن من هذا كله؟

نحن أكثر الشعوب التي تؤمن بالعقيدة الماضوية وتترك مستقبلها للمجهول ،نحن أكثر الشعوب التي لا تخطط للآتي بعد الحال ،لا تتحرك ضمن أطر علمية مدروسة ،ولا تنشغل بالذي سيحدث بقدر انشغالها بما حدث وما يحدث.

وفي خضم البحث عن تفسيرات مقنعة للذي يحدث لنا والذي يحدث للعالم الغربي ، وجدنا أن عدد المؤسسات التي تُعنى بشؤون المستقبل في الولايات المتحدة الأمريكية فقط بلغ في عام 1967 أكثر من 600 مؤسسة ،واليوم أصبحت الدراسات المستقبلية تدرس ضمن مقررات عدد من الجامعات والمدارس فيها ،بل أن دولة مثل السويد ،استطاعت أن تنفرد بإنشاء وزارة للمستقبل عام 1973.

في الجانب الآخر لم تحظ الدراسات المستقبلية ما تستحقه من اهتمام وعناية في العالمين العربي والإسلامي ،حيث اقتصرت معظمها على جهود فردية تسعى لاستشراف بعض الجزئيات المتعلقة بالمستقبل العربي ،على الرغم من أن أمتنا تواجه أعداء كثر وأخطار لا حصر لها.

ولا غرابة في ذلك ،مادام البعض لا يزال يعتقد أن استشراف المستقبل ضرب من ضروب التنجيم وعلم الغيب ،بل أن البعض يعتبره نوعا من الكفر لأنه يخالف مشيئة الله عزل وجل ،وكأن الباحث في المستقبل يمكن أن يغير مجرى الأحداث إذا ما قدر الله تعالى أن تكون على النحو الذي أراده عز وجل.

جامعات لا تُخطط

في عالمنا العربي ليس هناك سوى ثلاثة مشاريع فقط حاولت استشراف مستقبل المنطقة ،اثنان منها انتهى العمل منهما سنة 1988 ،والثالث سنة 1991،إلا أنّه لم يستفد منها عمليا في دوائر صناعة القرار العربي. أما المشاريع القُطرية فهي كثيرة ،لكن أكثرها لم تكتمل كما غلب على معظمها الجانب التخطيطي والمشاهد المشحونة بالآمال لارتباطها بدوائر العمل الحكومي.

في عالمنا العربي هناك ما يقارب 200 و600 معهد أو كلية و أكثر من 140 ألف عضو هيئة تدريس وأكثر من 6 ملايين طالب تقريبا، إلا أن عدد الأقسام المتخصصة بالدراسات المستقبلية في تلك الجامعات نادر جدا. فحتى نهاية 2010 مراكز الدراسات المتخصصة بالدراسات المستقبلية تعد على الأصابع. من جانب آخر تشير إحصاءات عالمية إلى أن 97% من الإنفاق على هذه الدراسات المستقبلية يتم في الدول المتقدمة ،بينما ينفق العالم الثالث 3% فقط على هذا الحقل العلمي.

فمتى يحين الأوان للفكر العربي والإسلامي المعاصر بأن يفسح حيزا للدراسات المستقبلية بين أبحاثه ومؤسساته البحثية بصورة علمية وجادة ،تسعى على الأقل لمعرفة ما ينتظرنا من أخطار وأزمات وكوارث ،وهو ما سيمكنه من الاهتمام بالقضايا الكبرى التي تهم الأمة وعدم الانشغال فقط بالقضايا الجزئية ،فديننا الإسلامي لا يرفض مبدأ الاستشراف العلمي للمستقبل ،إنما يرفض التكهن والتنجيم والتنبؤ المرضي الي لا يقوم على أسس علمية ولا يحمل حجة ولا بيان.