يظل الإعجاز البياني هو الإعجاز الممتد عبر عصور الزمن المختلفة، وهو الوسيلة الدقيقة للكشف عن إشارات الإعجاز الأخرى في القرآن الكريم، من إعجاز نفسي تأثيري أو غيبي تاريخي، أو إشارات علمية تمثل وجها من وجوه الإعجاز الذي يتكشف في مختلف مراحل العصور.

فالدلالة اللغوية للأسلوب القرآني هي الكاشفة عن وجوه إعجازه المختلفة، فمن الإعجاز البياني تنبع وجوه الإعجاز الأخرى؛ فتتكشف من بين دلالات الألفاظ والتراكيب البيانية الدقيقة المحكمة..

وهو مانجده ماثلا مثلا في قوله تعالى:  {فَالِقُ ٱلۡإِصۡبَاحِ وَجَعَلَ ٱلَّیۡلَ ‌سَكَنًا} [سُورَةُ الأَنۡعَامِ: ٩٦] إذ عبر عن فلق الإصباح باسم الفاعل فقال: (فالقُ الإصباح) في حين عدل عن الاسم إلى الفعل في التعبير عن الليل فقال: “وَجَعَلَ الليلَ سَكَنَاَ”.

ومجيء الاسم هنا يوحي بالقدرة العجيبة على فلق الإصباح، وإخراجه من بين ظلمات الكون الحالكة، في حين دل التحول إلى الفعل في (وجعل الليل سكنا) على أن الليل سابق في الخلقة والإيجاد قبل فلق الإصباح، وذلك لدلالة الفعل الماضي على حصول ذلك وتحققه في الزمن الماضي البعيد، والتقدير: وجعل الليل سكناً من قبل فلق الإصباح.

“فالإصباح طارئ، وأما الليل فهو سكن تنغمر فيه الكرة الأرضية ويحيط بها من جميع جوانبها كأنه لباس للأرض، قال تعالى: “وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً” [النبأ: 10].

وهذا ما كشف عنه العلم الحديث الآن، فقد “أفاد جميع رواد الفضاء منذ عام 1961، أنهم عندما اخترقوا الغلاف الجوي للأرض وجدوا أن القشرة الجوية الكروية المنيرة من هذا الخلاف، التي تواجه الشمس أثناء النهار لا يتعدى سمكها 200 كيلو متراً فوق سطح الأرض، وبعد هذا الارتفاع تظلم السماء تماماً رغم وجود الشمس التي لا يتشتت ضوؤها في الفضاء الكوني؛ لعدم وجود الذرات والجسيمات الكافية اللازمة لحدوث التشتت، كما تظهر النجوم مع قرص الشمس في السماء الحالكة الظلام، “وتبدو الأرض قرصاً منيراً يسبح وسط ظلام حالك”.

وهو ما أشار إليه القرآن أيضاً في موضع آخر بقوله تعالى: “وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ” [يس: 37]؛ أي: أن النهار ينسلخ من الليل الدائم في الفضاء كما ينسلخ جلد الشاة من جسدها، ولهذا فالليل هو الأصل بينما النهار طارئ”.

فكشف هذا التحول في التركيب البياني في نظم القرآن، عن جانب من جوانب الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.

يقول تعالى:{ هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ لِتَسۡكُنُوا۟ فِیهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَسۡمَعُونَ } [سُورَةُ يُونُسَ: ٦٧]

ويقول تعالى :{ أَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّا جَعَلۡنَا ٱلَّیۡلَ لِیَسۡكُنُوا۟ فِیهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ } [سُورَةُ النَّمۡلِ: ٨٦]

ويقول تعالى:{ ٱللَّهُ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ لِتَسۡكُنُوا۟ فِیهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَشۡكُرُونَ } [سُورَةُ غَافِرٍ: ٦١].

إذ استعمل مع الليل الفعل (لتسكنوا) ( ليسكنوا) ثم عدل منه إلى الاسم مع النهار، فقال: (مبصراً)، ولم يجر السياق على نسق واحد فيكون (والنهار لتبصروا فيه).

وعلل الزمخشري ذلك فقال : “لأنه لو قيل: “لتبصروا فيه” فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازي، ولو قيل: ساكناً، والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة ألا ترى إلى قولهم: “ليل ساج وساكن لا ريح فيه، لم تتميز الحقيقة من المجاز”.

ومراد الزمخشري هنا أن العلة من التحول إلى الاسم (مبصراً) هو إضفاء نوع من الجمال الفني بمجيء المجاز العقلي، ولو قال: “لتبصروا فيه”، فإنَّ هذه الناحية الجمالية تذهب لتصبح دالة على الحقيقة، وأن مجيء الفعل مع وصف الليل (لتسكنوا فيه) هو على الحقيقة، فيكون قد جمع بين الحقيقة والمجاز في تعبير واحد، ولو جعلهما بصورة تعبيرية واحدة لفاتت هذه المزية الفنية”.

وليس الأمر كذلك، فالمزية الفنية ليست مقصورة على المجاز فحسب، بل قد تكون الحقيقة أحياناً أبلغ من المجاز، والسياق هو الذي يحدد ذلك.

 والذي يظهر أن المولى -عزوجل- قال: “لتسكنوا فيه” ولم يقل مثلاً: “ساكناً”؛ لأنه يريد أن يمتن على عباده بنعمته وفضله بأن جعلهم الساكنين فيه، لا أن جعل الليل نفسه ساكناً، لذلك جاء بقوله (لكم) في قوله: “الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه”. ثم قال: “والنهار مبصراً” فأسند الإبصار للنهار؛ لملمحين دلالين هما:

الأول: ملمح معنوي، يراد به بيان أن النهار نفسه مبصر، يبصر أعمالنا، ويكون شاهداً علينا بالخير والشر، وخص النهار بالإشهاد على الأعمال؛ لكونه محلاً لحركة المكلفين، لذلك يقول المولى عزوجل: “وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ” [الأنعام: 60].

والثاني: ملمح حسي مادي يكشف عن جانب من جوانب الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، إذ كان المعتقد قديماً لدى علماء الإبصار “أن الإبصار يحدث نتيجة خروج شعاع من العين يسقط على الجسم فتتم رؤيته”. وقد ثبت علمياً خطأ هذا الاعتقاد بعد تقدم الدراسات التشريحية للعين، وأثبتت هذه الدراسات أن حدوث الإبصار يكون “نتيجة خروج شعاع من العين يسقط على الجسم، ثم ينعكس ليسقط على العين مرة أخرى، وعملية الانعكاس تتم للون واحد “طول موجي واحد” من ألوان الطيف السبعة المكونة لشعاع الشمس المرئي، ومن ثم فوجود شعاع الشمس أساسي لحدوث عملية الإبصار، فلا يمكن حدوث الإبصار في الظلام لعدم وجود الأطوال الموجية للأشعة المرئية، التي يمكن للأجسام امتصاص بعضها وعكس الآخر؛ لترى به عند سقوطه على شبكية العين”.

لذا” فالتعبير بكون النهار مبصراً في قوله تعالى: “والنهار مبصراً” إنما المراد به الأشعة المرئية المضيئة للنهار، والتعبير باسم الفاعل “مبصر” يفيد بأن النهار هو مصدر تلك الأشعة”.