لم يعد التمكين المنبري – إن صح هذا التعبير- حكرا بذلك القدر على الأقوياء ولا على المؤسّسات، دولة أو أحزابا أو مراكز قوى، فقد غدت أدوات التعبير والإبلاغ  بل والتأثير متاحة، فصناعة الوعي والوصول للحقائق لم تعد أمامها تلك الحدود كما السابق حين كانت الحياة العامة مؤممة، الإعلام الجديد والتفاعلي مكَّن الناس من أن يساهموا بشكل مباشر في التعبير عن ذواتهم؛ عن آمالهم وآلامهم، ومن خوض تجارب التوعية والتثاقف.

فسوق التواصل منصوب في كل لحظة وعبر عشرات من أشكال المنصات، تنتج السمعي والبصري والمكتوب، يلتقي عبرها الناس يتبادلون القصص والحقائق والأوهام، وينتجون المعرفة أحيانا.. وذلك بدون اشتراط ولا منة من أحد..ودون كلفة.. لقد تم قهر المكان والزمان.. واختصار المسافات.

حسنات الإعلام الجديد وافرة وفضائله مشهودة، ولكنه طَرح بطبيعته الخاصة مجموعة من التحديات، سنتعرض لبعضها ومن خلال طبيعة التناول سنشير إلى الاستجابات الصحيحة..أو الاستجابات المقترحة.

أولا-تحدي التبسيط؛ فسحر الإعلام الجديد والأفكار السهلة المصاغة التي تنالها الأيدي في كل ركن من الانترنت التفاعلي قضت على العمق وعلى القراءات الهادئة،  قبل سنوات قليلة كان بعض القراء يشكون من الكتب الفكرية غير التأسيسية ومن سهولة قراءة بعض الكتب الفكرية الممتعة مقابل التكوين العلمي والشرعي الذي يتطلب جهدا ذهنيا خصوصا مع الصياغات الصعبة لهذه العلوم على غير دارسيها، ثم بعد ذلك بوقت قصير إذا بالجميع يشكو من هجمة مقالات المواقع باعتبارها تصد عن القراءة في الكتب، بالطبع كانت تلك المقالات مقالات معرفية وتحليلية رصينة، واليوم يوشك التفرغ لقراءة أهم المقالات المنشورة في كبريات الصحف أن يكون عملية مجاهدة نفسية صعبة.. فالأفكار الجميلة الجاهزة التي تتدلى من عناقيد التدوينات أسهل وأكثر تنوعا وأقوى سحرا.

والحقيقة أن الانتباه لهذا الأمر يجعل من المهم الحذر من السقوط في التبسيط والاختزال، صحيح أن المساهمة اليومية ضرورة، وهي خروج للمتعلمين من عزلتهم إلى المساهمة في الإصلاح، فضلا عن أن تلك المساهمات هي في حد ذاتها تكوين وتدريب، وأزعم أن فيها تقوية لمهارات الكتابة ومهارات الحوار والمناظرة الصحيحة والتعويد والتعود على سماع الرأي الآخر، وغيرها من الفضائل.. ولكن يجب النظر إلى هذه الوسائط باعتبارها وسيلة للمشاركة وليست مصدرا للتكوين المعرفي.

التحدي الثاني: تحدي الوفرة وتحدي التفاصيل، والتفريعات، وكثافة المعلومات، هذه الأشياء تشكل خطرا على التكوين العلمي والمعرفي والمهاري السليم..وانطلاقا من محدودية الأوقات يجد المرأ أمامه إنتاجا وافرا، وبضائع فكرية من مختلف الأشكال، ونشرا كثيفا ..

والمعلومات بطبيعتها مغرية، لكنها لا تصنع الوعي، إنما يصنع الوعيٓ الرؤى الكلية السليمة، سواء كانت نتاج مجاهدات وتأملات أو كانت بفعل الانتقاء السليم للمنتوج المعرفي ومحاورته الذاتية.

هذا يعني أن الاستجابة السليمة هي الانتقاء .. والانتقاء لا يعني الرفض ولا التقوقع ولا الحزبية الفكرية (المدرسية)، وإنما يعني القدرة على التمييز، وعدم الاغترار بالاستعراض الذي لا نسق له، من المؤسف اليوم أن كثيرين طارت بهم مشاريع غير ناضجة لأنهم عرّضوا أنفسهم للانبهار بكل بضاعة ..وقد فكرت في سر أن بعض الشباب الأذكياء المميزين شكلوا أخوية فكرية رابطها الوحيد هو اسم شخص، وبحثت عن إنتاج الرجل فلم أقف له على كتاب واحد، ولكن وجدت مئات المحاضرات على اليوتيوب..وفكرت في أن اللغة المتحدية لصاحبنا هذا ونقده لكل شيء ونهجه المعلوماتي ونكبة الوسائط وسهولة جني ثمارها هي التوليفة التي كانت وراء صناعة تلك الظاهرة !.

٣-تحدي المساهمة؛ شكلا وأسلوبا ومحتوى: فرغم أن الأخطاء التي تقع من رواد الإعلام الجديد في هذا المنحى هي نتاج طبيعي للسرعة، وبسبب من انفعال الناس بقضايا أوطانهم أمتهم، إلاأنها لحساسيتها تترك آثارا سلبية، خصوصا في ظل صعوبة لجم شيطان لوحة المفاتيح.. وفِي هذا الإطار أود أن أشير إلى:

-ضرورة الحذر من الغرق في التفاصيل رغم أهمية مستوى من الإحاطة بالأحداث، وهذا يعني وجود خارطة ذهنية للإبحار في الشبكة وخطة وقت للتفاعل..

-أهمية تعهد الخطاب؛ شكلا ومضمونًا، العاطفة الفوارة الدافعة للإيجابية لا تعني بالضرورة السذاجة والبساطة، تعني الحرارة والصدق، والإحساس بالقضايا قلبيا ووجدانيا، ولكنها لاتعني الشطط والرفس الكلامي والاقصاء والرفض المطلق للآخر..في فضاءات الشباب اليوم هناك فرصة لأن يرفع المخلصون من سوية الناس الفكرية والخلقية، وهذه فرصة لاتضيّع.

-التوازن في الاهتمامات، وهو أمر يعني أن لا تغيب الرسالية والفكرة الكبيرة، فمثلا الغرق في تفاصيل الشأن السياسي ليس مهما إلا بقدر مايكون جزء من ناظم يستبطنه الشخص ذهنيا لفضح الاجرام العام أو لخلق الوعي المطلوب لدى الناس بمجموعة من القيم.

-أهمية المنحى التخصصي في التكوين، والاهتمام الموضوعي المركز، فلا يمكن للفرد أن يكون موسوعيا.. صحيح أنه من الضروري أن يكون الوعي شاملا بأهمية كل جوانب الحياة وبمبلغها في التأثير، وبشمولية هذا الدين وإحاطته وكليته: (يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة). ولكن هذا يعني أن يكون الوعي والاهتمام شاملا لا أن تكون الممارسة العامة والإسهام المعرفي شاملين، فإذا قدر ذلك لأفراد فغالبا مايكون متعلقا بمجال أو اثنين (ماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه)، فطبيعة التركيبة البشرية غالبا عاجزة عن هذه الإحاطة، والذين يمارسونها غالبا مايسقطون في مطبات ويأتون بالإغراب في المجالات التي لا يتقنون..

إن التجاوزات المنهجية من خطورة التسطيح  وعدم التأسيس والغرق في المدرسة المعلوماتية، والتحذير من الانشغال بالتدافع اليومي اللانمطي. والتي قد تطلق تفاعلاتها بعض العادات في التعاطي مع وسائل التفاعل الاجتماعي بالإمكان تجازوها ومن ثم وضع الإعلام الجديد بسحره وجاذبيته في مساره الصحيح.