يستغرب بعضنا حين يرى عنوان المقال يربط الإمام الجويني بنظرية العقد الاجتماعي، إذ المتبادر من النظرية أنها ظهرت واشتهرت في القرن السابع عشر أوان الثورة البرجوازية الفرنسية أو إبانها، وبرز تأصيلها في يد المفكر الفرنسي جان جاك روسو، من خلال كتابه (في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي)، وكان من تأثيره أن الفكر السياسي الغربي اليوم وكتاباته السياسية تتحلق حوله، وهو أمر مقبول إلى مستوى معين، لكن حين يرى ترويج هذه النظرية في المجتمع الإسلامي، وتقرر مناهجها في جامعاته، ويواجه أي تفكير أو تجديد يخرج عن مبادئ هذه النظرية بالسؤال والتبكيت، وهذا بلا شك أبعد تراثنا الإسلامي في أرفف المكتبات، وأطبق الغطاء على ثقافة الأمة من يد بني جلدتنا أولا قبل غيرهم! في وقت يوظف الغرب كفاءاته لدراسة هذا النوع من التراث!

وأكاد أجزم أن فكرة العقد الاجتماعي ذاتها مؤصلة بطريق أفضل في الإسلام، بنظامه الشامل للحياة: الدين والدنيا والمعاد، وهذا ما تناوله كتاب الجويني كأبرز النماذج الماثلة للعقد الاجتماعي، وكتابه الغياثي وضعه قبل روسو بنحو ستة قرون! ولا أستبعد أن تكون الفكرة ذاتها استقاها روسو من الغياثي! لا سيما إذا راعينا جانب التوالد والتلاقي بين الثقافات، ولإثبات هذا المقصود أتطرق لبعض القضايا بشكل موجز لها ارتباط قريب بموضوع المقال، من ذلك:

– نظرية العقد الاجتماعي والحق الطبيعي أو القانون الطبيعي.

– مبادئ نظرية العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو.

– أصول انعقاد الإمامة عند الجويني.

– المقارنة بين الجويني وجون جاك روسو .

الحق الطبيعي أو القانون الطبيعي

انطلقت فكرة العقد الاجتماعي لدي العلماء التنويريين في الغرب من مفهوم الحق الطبيعي أو القانون الطبيعي، لكن على الرغم من أن مصطلح القانون الطبيعي يتعذر تحديد مفاهيمه بالدقة، غير أنه يقرر بوجود أمر طبيعي وهو الحق أو الصواب، ويخضع له البشرية جمعاء، وليس من اختراع البشر وابتداعه، ويحتكم إليه الجميع بالطباع، وبحسب هذا القانون لا يمكن لحاكم أو قطر أو شعب بإرادته أن يصير أمرا من الأمور الخاطئة صوابا، أو يموه حقا من الحقوق باطلا،  أو أن يقلب ظلما عدلا، فالحق والقانون بمعناهما النهائي كائنان خارج جميع الشعوب وفوقهما، فهما عالميان ومتساويان بالنسبة للجميع، لا يستطيع أي شخص أن يكيفهما وفق هواه (عبد مجيد، مكي: العقد الاجتماعي- الأسس النظرية وأبرز المنظرين).

أكاد أجزم أن فكرة العقد الاجتماعي ذاتها مؤصلة بطريق أفضل في الإسلام، بنظامه الشامل للحياة: الدين والدنيا والمعاد

ومما يذكر من ملامح القانون أو الحق الطبيعي أنه كان ملاذا يلجأ إليه المستضعفون في كل عصر ومصر من أطراف العلاقة الاجتماعية والسياسية لتبرير الثورة على واقعهم المختلف ثقافيًا أو حضاريًا أو اقتصاديًا أو سياسيًا، كما يعتبر ذريعة قانونية لجأ إليها نظار الغرب قديمًا وحديثًا عند التحسس بقصور تشريعهم الوضعي. بل يعد القانون الطبيعي المثل الأعلى للقانون الذي يسمو على أي قانون وضعي حين لا يحقق أهداف الحكام والمحكومين. ويهدف القانون الطبيعي إلى رسم النظام العالمي الذي يحكم الإنسان أولا، وإلى تمجيد الحقوق الثابتة للأفراد والتي تدعى بالحقوق الطبيعية للإنسان وهي التي لا تقبل التجزئة ولا الاغتصاب. (عبد مجيد، مكي: العقد الاجتماعي- الأسس النظرية وأبرز المنظرين).

وهذا القانون يمثل الأساس الفكري لحقوق الإنسان، وهو قديم قدم التاريخ البشري على صعيد المعمورة، لذلك عني به الفلاسفة اليونانيون منهم وغيرهم، وأناطوا نظرياتهم الاجتماعية والإنسانية المختلفة به، وحين ظهرت نظرية العقد الاجتماعي فإنه لا يستغرب أن تجد منه منفسا رحبا للظهور والازدهار، لا سيما ما تزامن معه من الهيمنة الكنسية على الشعب الغربي، وسيطرة الحكومات المستبدة المطلقة في القرون الوسطى في أوروبا، وكان من ردة فعل المفكرين التنويريين في القرن السابع عشر تأطير نظرية العقد الاجتماعي لإسترداد حقوق الناس الطبيعية من الحرية والعدالة والمساواة حسب ما يقتضيه قانون الحق الطبيعي، وكان من أبرز المفكرين المساواتيين توماس هوبز –  جون لوك  – ثم جون جاك روسو.

هذا القانون الطبيعي هو القيم الفطرية التي تستقيم مع جميع الشعوب وهي تسبق كل القوانين الوضعية، والفلاسفة وعلماء الديانات، وهذا ما أعرب عنه بقوله إننا إذا أمعنا النظر في فكرة حقوق الإنسان الطبيعية التي نقلت حضارة الإنسان المستبد إلى حضارة الإنسان المستنير نجد أنها قامت على فكرة أنها تسبق القانون، وهي متأصلة في فطرة الإنسان قبل أن تأتي الشرائع والمعاهدات والمواثيق الدولية والداخلية لتؤكدها.

آراء جون جاك روسو في نظريته العقد الاجتماعي

يؤمن روسو أن الإنسان يتمتع قبل وجود الدولة بحرية كاملة وكان سعيدا في حياته، ولم يصب إلا بالقليل من الأمراض، وقامت له حاجات طبيعية لكن لدواعي عجزه الشخصي اضطر إلى الانضمام والتعاون مع غيره من أبناء نوعه بشكل مؤقت، لكن هذه الحاجات مع الوقت اتسعت عليه وتكاثرت، بل وقع في كوارث طبيعية مثل الزلازل والفيضانات فأحرجته إلى الاجتماع بصفة مستديمة، وهنا بدأ يتغير سلوك الإنسان، وهكذا تكون عند الإنسان العيش الاجتماعي، ونشأت لديه الحياة المدنية المنظمة بالقوانين التي تثبت الملكية والطبقية بين الناس، وتحول الإنسان الطيب بالطبع إلى شرير الاجتماع.

وفي نظر روسو فإن الاجتماع البشري أهدر جوانب الخير من حياة الإنسان، وأدخلها في دواليب التدهور والانحطاط باعتبار أن المجتمع الإنساني تأسس على المصلحة الخاصة وليس على المصلحة العامة، ومع تضارب المصالح  تقع الصراعات والنزاعات.

ومن أجل تلافي هذا الوضع الاجتماعي المريض أسس جون جاك روسو “نظرية العقد الاجتماعي”، وهو يبحث عن مبادئ الحق السياسي ويوضحها للوصول إلى التنظير لمجتمع متماسك سياسيا، مجتمع يكفل العدل والمساواة والحق الطبيعي لجميع المواطنين، ويتم ذلك على ضوء التعاقد،  حيث يتنازل كل أفراد المجتمع عن حقوقه الفردية بإرادته المطلقة ودون تحفظ لمصلحة الاشتراك، ويحل القانون محل الإدارة الفردية، ويصبح بهذا البند في العقد الاجتماعي كل أفراد المجتمع متساوين في ظل القانون. وهذا ما عبر عنه روسو بقوله: يضع كل واحد منا شخصه وكل قدرته موضع اشتراك تحت الإمرة العليا التي للإدارة العامة، ونحن نتقبل كجسم واحد كل عضو كجزء لا يتجزأ من الكل. (في العقد الاجتماعي، جان جاك روسو: 94).

ويرى أن هذا التعاقد ينتج فعل الاجتماع بدلا من الشخص الجزئي، ويعتبر كل فرد من المتعاقدين جسما معنويا في الدولة، ويحمل هذا التكتل الاجتماعي التعاقدي حسب رأيه اسم الجمهورية أو الجسم السياسي. أما السلطة السيادية – في نظر روسو- فهي واحدة لا تتجزأ وهي ملك للشعب الذي لا سيادة لأحد سواه، والحرية والمساواة هما المبدآن الموجهان للإرادة العامة.