أصول عقد البيعة عند الجويني

رغم ما نال كتاب الغياثي للإمام الجويني من الشهرة في أوساط العلم الشرعي وطلبته، إلا أن نظريته السياسية لا يكاد تذكر بين دارسي العلوم السياسية أو العلاقات الاجتماعية أو الدولية، وفي حين تعتمد الدول الإسلامية النظام الديمقراطي والفقهاء المعاصرون يبررونه بوسائل مختلفة، لا يأتي ذكر الغياثي في اللسان إلا في معرض الاستشهاد والتبرير للديمقراطية. أما الجويني فقد وضع كتابه هذا في بيان أصول السياسات وتنظيم الدولة الإسلامية،  للوزير الحسن بن علي الطوسي، الملقب بـ:نظام الملك وغياث الدولة، كان وزيرا للسلطان السلجوقي (ألب أرسلان). أخذ الكتاب عنوان (الغياثي) من لقب الوزير غياث الدولة، وكان غرض الجويني إرشاد الوزير إلى أحكام السياسة، لتكون واصحة بين يديه، ويكون دستوره في إمارته، يأخذ منه ويدع! وهذا الكتاب يمثل نظرية مكتملة لنظام السياسة في الفقه الإسلامي.

وارتأيت اختصار بعض مبادئ متأصلة في نظرية العقد الاجتماعي لدي الجويني قبل أن ادرج إلى المقارنة بين الغياثي ونظرية العقد الاجتماعي لجان جاك روسو.

يعرف الجويني الإمامة بأنها رئاسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، ووظيفتها حفظ البلد والمجتمع، والشعب، وإنصاف المطلوم، ورد الظلم، واستيفاء الحقوق الفردية والمجتمعية. وأدخل في هذا التعريف غايات الإمامة ووظيفتها كالسلطة العليا في الدولة، وأشار إلى حماية حريات الناس الفردية والجماعية، وحماية أمن البلاد والأفراد، بجميع مستوياتهم، وهي حقوق يقتضيها القانون الطبيعي أو الحق الطبيعي لدى البشر.

أخذ الكتاب عنوان (الغياثي) من لقب الوزير غياث الدولة، وكان غرض الجويني إرشاد الوزير إلى أحكام السياسة، لتكون واصحة بين يديه، ويكون دستوره في إمارته

ومن الحقوق الإنسانية التي تناولها الإمام الجويني ودافع عنها، حرية الناس في اختيار القائم على أمورهم، ورأى أن الإدارة العامة حق الأمة بأسرها، تقيم مكانها من ينوب عنها من أهل الحل والعقد، وهم أهل الوجاهة والنظر والخبرة في السياسة. ويرى ضرورة أن يتصف هؤلاء النواب بمصطلحنا السياسي اليوم بالاستقلالية والنزاهة المطلقة والتجربة بأمور السياسة.

كما اشترط أن يعتد في بيعة الإمام للرئاسة العامة حصول عدد كبير من الأتباع والأنصار، حيث تحصل بهم شوكة ومنعة، وهو في هذه النقطة يرى بحكم الكثرة والغالب من أهل الحل والعقد، ويمنع أن ينفرد شخص واحد بتعيين الإمام فقال: اتفق العلماء قاطبة على أن رجلا من اهل الحل والعقد لو استخلى بمن صلح للإمامة وعقد له البيعة لم تثبت الإمامة.(الغياثي: 251)، لأن حق الشعب لا يؤديه فرد واحد. وأكد على انعقاد الإمامة بالعدد فقال: إن بايع رجل واحد مرموق، كثير الأتباع والأشياع، مطاع في قومه.. انعقدت الإمامة. (الغياثي: 251).

ومن نظرياته في حماية الحقوق الفردية في المجتمع، رعاية أملاك الناس واحترام إراداتهم وعدم النيل منها سواء من الحاكم وأصحاب السلطة أو فيما بين أفراد المجتمع أنفسهم. فرفض أن تمتد يد الإمام إلى أموال الناس إلا بحقها، ومن حقها الزكوات والأموال المرصدة للمصالح العامة. كما أوجب على الإمام إقامة مؤسسة القضاء والمحاكم لفض النزاعات بين الشعب.

وأبرز الجويني رعاية أمن المجتمع من أهم واجبات الإمام، ودراسته المستفيضة للأمن الداخلي والخارجي، والأمن الديني في المجتمع على وجه الخصوص تعكس تفطنه لقيمة الأمن في المجتمع الإنساني، ويرى أنه أساس النعم كلها ودوامها، وفيه انتظام الحكم والإدارة العامة للدولة، وكان مما نظر له: أنه إذا اظطربت الطرق وانقطعت الرفاق وانحصر الناس في البلاد، وظهرت دواعي الفساد، ترتب عليه غلاء الأسعار، وخراب الديار.. فالأمن والعافية قاعدتا النعم كلها، ولا يهنأ بشيء منها دونها. (الغياثي: 311).

الإدارة العامة حق الأمة بأسرها، تقيم مكانها من ينوب عنها من أهل الحل والعقد، وهم أهل الوجاهة والنظر والخبرة في السياسة

ويؤصل الجويني لخلع الإمام أو انخلاعه إذا ظهرت منه حقائق الاستبداد، والظلم، وهضم لحقوق الشعب، أو ضعفت قوته وشعبيته في المجتمع، أو وقع في أسر الكفار، وهذا يؤكد ما بدأنا به أن حق اختيار الإمامة للشعب، وأمر الحكم ابتداء وانتهاء يرجع إليهم، ولهم القول الأخير في الخلع، وهذا بطبيعة الحال يرد ما يثار أن الإمام الجويني يؤصل للاستبداد. يقول في الغياثي: أما التمادي في الفسوق إذا جر خبطا وخبلا في النظر.. فذلك يقتضي خلعا وانخلاعا..”، ثم قال: “وانقطاع نظر الإمام بأسر بعد انفكاكه، أو بسقوط طاعته، أو مرضة مزمنة، يتضمن اختلالا بينا واضحا، وخرما في الرأي لائحا، يوجب الخلع“.

بين الإمام الجويني ونظرية العقد الاجتماعي

واستيفاء لغرض هذه الدراسة، فإن كل ما سبق الحديث عنه توطئة لهذا المبحث، وإذا أردنا الوقوف على العلاقة بين أصول السياسة عند الجويني ونظرية روسو عن العقد الاجتماعي، فإنه لا بد من إبراز بعض الجوانب المشتركة التي تناولها كل واحد منهما، ونقارن بينهما لنصل إلى أي نظريتين قعدت لحقوق الإنسان الطبيعية، حسب ما يقتضيه “القانون الطبيعي أو الحق الطبيعي”. تتمخض لنا ثلاثة مبادئ دارت حولها نظريات العقد الاجتماعي.

المبدأ الأول – سيادة الدولة وزعامتها

يقرر روسو أن أداة الحكم والسلطة تمثل حريات الأفراد الطبيعية، وعبر عن هذه الأداة بالإرادة العامة، ويفترض أن أفراد المجتمع يتنازلون عن حرياتهم الفردية المختلفة من أجل تكون السيادة العظمى للمجتمع، وهذه السيادة عبر عنها روسو بالجسم السياسي أو صاحب السيادة. وهذه السيادة تكسب القدسية أو الإطلاق بمقتضى السلطة القانونية، ولا يحل لها تقديم مصلحة فردية أو خاصة لصاحب السلطة على مصلحة المجتمع، بل يجب أن تكون المصالح كلها مشتركة بين أبناء الوطن. وليست السيادة عند روسو سوى ممارسة الإرادة العامة، فإنه يمتنع  أبدا التنازل عنها، ومن يمارسها ليس إلا موجودا جماعيا.

كما أن السيادة لا تقبل التجزئة أو التعددية، ورأى الدعوى إلى تجزئة السيادة إلى سلطة تشريعية، وتنفيذية، وكذا القوى إلى قضائية وجنائية وحربية، والإدارة إلى الشؤون الداخلية والخارجية، كلها ترهات أهل السياسة. (في العقد الاجتماعي، روسو: 107-108).

أما الإمام الجويني فإنه يختار أن سيادة الدولة وزعامتها تنعقد للإمام باختيار الناس، وواجباته في الحكم بمثابة إنفاذ حكم الله على أرض الله بين عباد الله، وهذا الحكم يشمله كذلك، لذلك يمكن القول ليس للإمام أو من يوليه من أهل الحل والعقد من أمر التشريع شيء، والشارع الحقيقي هو الله، والمسلمون جميعا أئمة وولاة وكذا الرعية يجب عليهم الالتزام بأوامر الله تعالى، وهنا يضع الجويني فرضية انعدام الإمام أو الحاكم – وهذا ما يميز كتابه الغياثي- يقول: والذي يجب التعويل عليه أن كل واقعة وقعت في الإسلام تعين على ملتزمي الإسلام أن يقيموا أمر الله فيها، إما بأنفسهم إذا فقدوا من يليهم، أو بأن يتبعوا أمر واليهم.. فالمسلمون هم المخاطبون، والإمام في التزام أحكام الإسلام كواحد من الأنام، ولكنه مستناب في تنفيذ الأحكام. (الغياثي: 391).

سيادة الدولة وزعامتها تنعقد للإمام باختيار الناس، وواجباته في الحكم بمثابة إنفاذ حكم الله على أرض الله بين عباد الله

وعبر عن الحقيقة ذاتها في موضع آخر، فقال: والإمام في التزام الأحكام، وتطوق الإسلام كواحد من مكلفي الأنام، وإنما هو ذريعة في حمل الناس على الشريعة، غير أن الزمان إذا اشتمل على صالحين لمنصب الإمامة، فالاختيار يقطع الشجار، ويتضمن التعيين والانحصار، ولا حكم مع قيام الإمام إلا للمليك العلام. (الغياثي: 434).

يرجح الجويني هنا صريحا أن الحاكم ليس له وصف غير منفذ لحكم الله تعالى، وهذا لا يكسبه أي قدسية أو عصمة لأن الحاكم أثناء تنفيذ الأحكام يحتاج إلى النظر في الواقعة وبذل الاجتهاد في إصابة الحق، ولا يستبد برأيه عن الأخذ بمشورة أهل الحل والعقد. (الغياثي: 261). بل يختار جواز عزله أو انعزاله إذا قارف ذنبا استوجب ذلك، كما قررنا في أصول الإمامة.

وهنا يظهر لنا الفرق، ففي حال يرى روسو قدسية السلطة القانونية إو إطلاقيتها، يختار الجويني عدم قدسية السلطة الحاكمة وإنما تكسب الشرعية من الشعب، ومن التزامه بأحكام الشرع. لكن مع إمعان النظر نرى نظرية روسو في النتيجة خذلت الشعب وروجت للطبقية، حين صارت هذه النظرية آلة بيد دعاة الاشتراكية والشيوعية، بدءا من القرن الثامن عشر وما بعده. لقد استعدى روسو بنظريته الدولة على الشعوب، وشرّع لسيطرة السلطة العليا المطلقة على ممتلكات الناس، وأعجب من ذلك كله  أن نظرية العقد الاجتماعي عند روسو دعت إلى تكدس السلطة بيد السياسيين، حين لم تقبل تجزئة السلط وتقسيمها!