تشغل قضية الإنسان ودوره وموقعه ضمن النظام الكوني حيزا كبيرا من التفكير الفلسفي، فالحداثة الغربية قد أقامت بناءها الفكري على الإطاحة بالإله من قمة النظام الكوني وإحلال الإنسان محله مما أفضى إلى تقديس الإنسان، وهذه الرؤية تغاير رؤية الأديان والمذاهب الفلسفية القديمة التي حطت من قدر الإنسان وقللت من شأنه وقدمته قربا للآلهة وجعلته في موضع العبد الخاضع لإرادتها الذي لا يملك فكاكا من مصيره سوى بالتوسل والضراعة للآلهة، وفي مقابلة هاتين الرؤيتين تنهض رؤية ثالثة يمثلها الإسلام وكتابه الكريم الذي لا يعد الإنسان إلها يفعل ما يحلو له، ولا عبدا ذليلا لا يملك من أمره وشأنه شيئا، وإنما هو خليفة لله، وقد تأثر المفكرون المسلمون المعاصرون بهذه الرؤية الرؤية القرآنية وقدموا شروحاتهم لها، وفي السطور التالية سأعرض لرؤية علي شريعتي (1933-1977م) لقضية الإنسان وخلقه وعلاقته بالكون وموقعه خلاله.

تأملات في خلق الإنسان

يتخذ شريعتي من “قصة الخلق” مدخلا لمناقشة مسألة ماهية الإنسان ويعدها رمزا على مقام الإنسان في الإسلام، وهو يذكرنا بأن قصة الخلق قد أوردها القرآن الكريم بلغة رمزية تحمل إشارات ورموز ضمنية لأن اللغة الواضحة ذات البعد الواحد قد تكون مفيدة في التعليم لكنها لا تمكث طويلا، إذ تصبح عرضة للتجاوز بمضي الزمن، أما اللغة الرمزية فهي لغة متعددة الجوانب والأبعاد حتى يمكن استخلاص معانيها المتعددة جيلا بعد جيل، فلا تفنى معانيها ولا ينضب ما يستخلص منها، وهو ما يتلائم مع الحقيقة الدينية التي هي ثابتة ومتجددة في آن.

ويميز قصة الخلق في القرآن أن الله تعالى يجعل من الإنسان خليفة (إني جاعل في الأرض خليفة)، وهي منزلة لا تستطيع نظرية مركزية الإنسان التي ظهرت أعقاب عصر النهضة أن تمنح الإنسان مكانة تفوقها، لكن الإنسان لا يغدو معها إلها -كما تجنح النظرية- وإنما يظل عبدا لله يضطلع بمسئوليته تجاه الكائنات الأخرى وتجاه الكون بمقتضى كونه خليفة لله، ورغم تساؤلات الملائكة وتخوفاتها من سفك الدماء والإفساد في الأرض تبدأ عملية الخلق، وتبدأ معها عملية الرمز العميقة  كما يقول شريعتي، فالله خلق خليفته من التراب المتعفن الذي هو أحقر مواد الأرض لا من أفضلها وأطيبها، ثم نفخ فيه من روحه -وليس من نفسه- أي من أشرف شيء يمكن أن يعبر عنه البشر ويضع له اسما- وهو بهذا المعني يعد مخلوقا مركبا من بعدين متنافرين: بعد طيني يجذبه إلى الأرض، وآخر متعالي يجذبه نحو السماء، وهذه التركيبية هي سر عظمة الإنسان وخلوده، وبينهما ينشأ الصراع في داخل الإنسان حتى ينحاز الإنسان إلى أحدهما ويقرر مصيره مصداقا لقوله تعالى (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها).

ويمضي شريعتي موضحا أن الإنسان لا يكتسب منزلته في القرآن من خلال نفخ الله له من روحه وحسب، وإنما تتجسد في قصة الخلق مظهرين آخرين من مظاهر تكريم الإنسان، وهما، تعلم الأسماء (وعلم آدم الأسماء كلها)، وحمل الأمانة وهي عند شريعتي ليست سوى إرادة الإنسان واختياره حتى ليعدها “الفضيلة الوحيدة” للإنسان التي تفضله عن سائر المخلوقات “فالإنسان هو الوحيد الذي يتمكن التمرد على الصورة التي خلق عليها، وعلى احتياجاته المعنوية والمادية وغرائزه، يتمكن من عمل الخير والشر، يتمكن أن يعمل بعقله وخلافه، وهو حر في أن يكون خيرا أو شريرا، أن يصير ترابيا أو ربانيا، فالإرادة من أعظم خصائص الإنسان، وتتضح معها العلاقة بينه وبين الله”[1].

ويختم شريعتي رؤيته لقصة الخلق باستنباط ثلاث حقائق تنطوي عليها تشكل رؤية الإنسان لذاته وللكون من حوله وهي:

الأولى: أن بني الإنسان جميعهم أخوة وليسوا متساوين فقط، والفرق بينهما جلي، فالمساواة اصطلاح حقوقي أما الأخوة فتعبير عن الطبيعة المشتركة بين البشر.

والثانية: التساوي بين طبيعة المرأة والرجل، وذلك خلافا لجميع الفلسفات والأديان السابقة، فهما متساوين من جميع الجهات، ومتحدان في الطينة والخلقة.

والثالثة: أن أفضلية الإنسان تنبع من العلم، فقد سجدت له الملائكة رغم تفوق عنصرها عليه لأنها من النور، ومن امتلاكه الإرادة وحرية الاختيار التي تتيح له أن يختار قطب الله أو قطب الطين.

الدين والعبادة

الإنسان ذو البعدين يحتاج بالضرورة إلى دين ذو بعدين كما يفترض شريعتي، دين لا يصرفه إلى النزعة الأخروية البحتة ولا إلى النزعة المادية المفرطة، بل يحقق التوازن بينهما حتى يساعده على أداء مسئولياته الإنسانية، وهذا هو الإسلام، والعبادة في الإسلام تتخذ معنى مختلفا عما هو سائد، فهي ليست بمعنى أداء الوظائف الدينية والأوراد اللفظية كما هو شائع ومعروف لدى الأديان والمذاهب التقليدية، فأصل العبارة اللغوي يبين أنها من “عبَد الطريق” أي أعدها بحيث يسير السائر بسير وسهولة إلى الهدف، وهي السبيل لتنقية الإنسان وتحريره من الميول والأغراض الدنية حتى يصل إلى الإخلاص، إن الصلاة على سبيل المثال تجذب الإنسان عدة مرات من مستنقع الحياة الفردية والاقتصادية ليقف في مواجهة فردية أو جماعية مع الله، وهي بهذا تمنع الإنسان من التردي الكامل في حياة الفردية وعبادة الاستهلاك.

فالمقصود إذا من العبادة تحقيق الاتصال الوجودي المستمر بالله، وهذا الدور للعبادة في عالم اليوم هو أهم من دورها في العصور السابقة، ففي الماضي كانت برجوازية بدائية تسيطر علينا، وقبلها كان نظام الاقطاع، وكانت الفرصة موجودة في الحالتين لكي يفكر الإنسان في الله وفي الطبيعة، أما اليوم فالرأسمالية غدت خليطا من الاقتصاد والثقافة والاجتماع والسياسة وأصبحت شبكة سرطانية لم تمسخ الدنيا وحدها وإنما مسخت الإنسان كذلك ” والعبادة فقط هي العلاقة التي تستطيع أن تحمي الفرد في مثل هذا النظام المرعب من مسخ وجوده وابتذال إنسانيته ونسيان كل القيم الإنسانية، وتقيم لنا علاقة مع أصل الوجود، وتحفظنا في عالم تهجم عليه الميكنة والرأسمالية هجوما عنيفا وتهبنا ملاذا عظيما”[2].

الإنسان والرؤية الكونية

شغل علي شريعتي بمسألة الرؤية الكونية، وهي تعني كيف ينظر الإنسان إلى نفسه وإلى العالم من حوله وكيف يفسره ويفهمه وهي تشمل ثلاث عناصر أساسية: الله والإنسان والطبيعة، وقد أوضح شريعتي أن هناك رؤى متعددة لهذا العالم فهناك الرؤية المادية القائمة على أساس أصالة المادة، التي تعتقد أن كل ما هو موجود هو عبارة عن مجموعة من العناصر والصلات المادية والعالم له عنصر واحد هو المادة، فالكون لا غاية له ولا هدف فقد خلق عبثا ويقطنه مجموعة من الحمقى كما يقول سارتر؛ وحده الإنسان الذي توصل إلى الوعي في هذه الدار التافهة. وفي مقابلتها هناك الرؤية الدينية التي تؤمن أن الكون عبارة عن نظام واع  دقيق يسير وفق غايات حددتها سلفا قوى غيبية تشرف على هذا العالم، ووفق هذه الرؤية فإن لحياة الإنسان معنى وهدف وهي ليست عبثا لا طائل من ورائه، فالإخاء الإنساني والتضحية من أجل الآخرين تصبح ذات ذات مغزى.

ويخلص شريعتي إلى أنه بعد أن تم حذف “الإله” من الرؤية المادية قد حل “الإنسان” محله، وغدا موضع التقديس، ولكن هذا لم يكن بلا عواقب؛ فقد غاب المعنى فلا شيء جيد ولا ردي ولا حسن ولا قبيح، وغدت “الأنا” هي معيار تحديد القبح والحسن وكل عمل هو حسن إذا كان يؤدي إلى اللذة والمنفعة، وصار “العبث” فلسفة وغاية.


[1] علي شريعتي، الإسلام والإنسان، ترجمة: عباس الترجمان، بيروت: دار الأمير، 2007، ص 22.

[2] إبراهيم الدسوقي شتا، الثورة الإيرانية: الصراع، الملحمة، النصر، القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1978، ص 160-161.