يحتاج “الاجتهاد المعرفي” إلى عدة متطلبات أهمها المتطلبات البشرية بتوفر الكوادر العاملة والمتخصصة في الفروع العلمية المختلفة، وهناك نوعان من المتطلبات الأساسية لتحقيق “الاجتهاد المعرفي” والإسهام في تحقيق مضامينه الحضارية وهي:

أولًا. المتطلبات العلمية والفكرية: ونعني بها الشروط العلمية التي ينبغي أن تتوافر في إعداد “المجتهد معرفيًا”، ويختص بها حال اجتهاده معرفيًا وهذه الشروط يمكن طرحها في قسمين:

القسم الأول: الشروط / المتطلبات العلمية التقليدية الموجودة في كتب إعداد المجتهدين في التراث الإسلامي.

والقسم الثاني: الشروط / المتطلبات العلمية الحديثة بما يتوافق مع طبيعة مفهوم “الاجتهاد المعرفي” ووظائفه الحضارية المعاصرة.

أما النوع الثاني من هذه المتطلبات فيتعلق بالمتطلبات المؤسسية: ونعني بها مأْسَسَة “الاجتهاد المعرفي” وتطوير أداءه من الفردية والتناثر إلى الجماعية والتكامل.  ونتناول فيما يلي هذه المتطلبات بشيء من التفصيل:

أولًا. المتطلبات العلمية والفكرية

1 – متطلبات علمية تقليدية: من الشروط التي ينبغي أن توفر فيمن يتصدى للاجتهاد المعرفي ما يلي([1])

– العلم بالقرآن والسنة وعلومهما.

– فقه روح التشريع ومبادئه العامة والمقاصد التي جاء الإسلام لتحقيقها، وأن يستقرئ العلل التي بني عليها التشريع، والأصول التشريعية العامة التي وردت صريحة أو ضمنية في القرآن والسنة.

– العلم بلسان العربية وعلومها.

– العلم بأصول الفقه وعلومه.

– العلم بأحوال البيئة التي يعيش فيها.

2– التخصص العلمي: وفي هذا الصدد نؤكد أن البحوث العلمية والتطبيقية بلغت من الضبط والدقة والتوسع والتفرغ حدًا لم يعد معه في وسع أي إنسان أن يلم بأكثر من فرع من العلوم، وهذا يستدعي إعداد المجتهد من خلال نوعين من الدراسة: الأولى دراسة عامة واسعة في العلوم لرؤية الكل ثم الشروع في التخصص في المرحلة الثانية. ويستحسن أن يقترن اختصاص المجتهد في العلوم الدينية باختصاص آخر كالرياضيات أو العلوم أو التاريخ إلى غير ذلك أو بمهنة كالطب أو الفلاحة أو الاقتصاد أو غير ذلك. ([2])

3 – التواصل الحضاري: على طالب الاجتهاد أن يكون منفتحًا على العالم ولاسيما فيما يتعلق باختصاصه في العلوم الدينية أو العلوم الدقيقة: فيتعرف على النشاط الذي يمارسه أبناء سائر الأقطار الإسلامية. وهذا يتطلب إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل إلى جانب إتقان العربية. ([3])

4 – معرفة أحوال الأمة: على المجتهد – أيضًا – أن يكون عالمًـا بأحوال أمته وما تحويه من إمكانات، وما تعاني منه من جوانب جهل وتخلف وفساد واستبداد من جهة أخرى. ([4])

5 – معرفة المدنيات الأخرى: على المجتهد -كذلك- أن يتعرف على مواطن القوة ومواطن الضعف في المدنيات الأخرى، وذلك من أجل تحديد الموقف السليم منهما، وإدراك كيفية المساهمة في تقديم حلول للمشكلات العالمية المعاصرة، وما ينبغي اكتسابه من عوامل القوة من المدنية القائمة. ([5])

6 – حصر الطاقات الفكرية وتوظيفها: وهذا الاعتبار يتطلب درس الجغرافيا الفكرية لعالم الإسلام، من أجل حصر كافة الطاقات الإسلامية، وتوزيع المهمات عليها وفق توجهاتها واختصاصاتها ونقاط تألقها وعطائها…وذلك لتجنب خطيئة النظرة أحادية الجانب، وجعل كافة المذاهب الاجتهادية تدلي بدلوها في مجرى العطاء التاريخي. ([6])

7 – مأْسَسَة “الاجتهاد المعرفي”: من المتطلبات الأساسية لتحقيق الاجتهاد المعرفي في واقع حياة المسلمين هو إقامة مؤسسة علمية تهدف إلى معالجة آثار إشكالية الازدواجية الفكرية والثقافية التي وقعت فيها الأمة إبان النهضة الأوروبية وما صاحبها من تراجع حضاري إسلامي.

“فينبغي أن تكون هناك محاولة جادة لتخطي الأثر السيئ لازدواج الثقافتين الشرعية والعصرية والذي يتركز في تخريج فئة دارسة للعلوم الشرعية وغير  ملمة بمشاكل العصر وعلومه وفئة أخرى غير ملمة بالعلوم الشرعية…وهنا تبدو الحاجة ماسة إلى معهد عالٍ لمن أتموا تخصصاتهم سواء منها الشرعية أو العصرية على أعلى المستويات كي يكمل كل منهم ما ينقصه من العلوم الأخرى وفي نطاق تخصصه فقط (اهتداء بشروط المجتهد الخاص لا العام) حتى تتكون من خريجي هذا المعهد وحدات متخصصة في كل فرع تجمع في كل فرد من أفرادها – لا بالتكامل بين أفرادها فحسب – بين الثقافتين العصرية والشرعية ممتزجة متفاعلة، وتكون هذه الوحدات المتخصصة هي معقد الأمل في الاجتهاد المعاصر ضمن إطار مجمع علمي إسلامي… ورسم منهج الاجتهاد المعاصر وأساس الإنتاج المنشود لهذا المجتمع العلمي”.([7])

8 – الاجتهاد الجماعي: تجاوز الفكر المعاصر فكرة العمل الذهني الفردي، وقد تجاوزت الحضارة الإسلامية ذلك منذ قرون بإبداعها المؤسسات الفكرية والمدارس الفكرية الخلاقة، ويبدو الواقع أكثر احتياجًا للعمل الجماعي منه للعمل الفردي لتحقيق الصوابية لاسيما في تلك الأعمال التي تتطلب تنزيل قيم الوحي على الواقع المعاش، وقد أصبح هذا الواقع أكثر تعقيدًا في خصائصه وملابساته، ويحتاج إلى أكثر من متخصص علمي في رصد احتياجاته وتلبيتها.

نظرًا لتعقد الحياة المعاصرة وتنوع المشاكل واتساع العلوم وتطبيقاتها على الحياة أصبح من الضروري أن يتخصص المجتهد في حقل واحد من حقول المعرفة. وأن يتنوع المجتهدون وفق الاختصاص وأن يصبح الاجتهاد عملًا تعاونيًا بعد أن كان فرديًا وأن تؤسس مجالس اجتهاد يحضرها مجتهدون من شتى الاختصاصات فلم يعد في وسع المجتهد الواحد أن يلم بكل علوم الدين والدنيا وإيجاد الحلول لكل مشاكل الإنسان في هذا العصر.([8])

لقد أصبح الاجتهاد الجماعي ضرورة لواقع الأمة ولعملية الاجتهاد ذاتها حتى تفي بوظيفتها نحو الجمهور المستهدف منها “فما فتئ الواقع الإسلامي الراهن يؤكد يومًا بعد يوم ضرورة الانتقال من اجتهاد الفرد إلى اجتهاد الجماعة في التعامل مع النوازل والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه الوجود الإسلامي المعاصر فحجم التحديثات والنوازل أكبر من أن يُتصدى لها باجتهادات فردية متسمة بالمحدودية والجزئية”. ([9])

ومن الاجتهاد الجماعي-أيضًا- ما يلي([10])

1- طبيعة النصوص الشرعية التي عنيت بالأصول العامة والمبادئ الأساسية أكثر من عنايتها بالتفاصيل والجزيئات الخاصة.

2- ظهور النوازل الجديدة والقضايا المستجدة.

3- نشوء التخصص المنفرد في ضوء الثورة العلمية والمعلوماتية المعاصرة والتطورات العميقة في المجالات المتعددة.

4- تعذر تحقق الاجتهاد المطلق.

5- تيسر وسائل الاجتهاد الجماعي وسبل تحقيقه.

6- إظهار صلاحية الشريعة ومرونتها على المستوى الحضاري.

أما غايات الاجتهاد الجماعي -الذي هو شكل الاجتهاد المعرفي وصورته- فهي: ([11])

1- وسيلة لاستمرار وإحياء عملية الاجتهاد التي توقفت وجمدت في عالم المسلمين.

2 – وسيلة الانتقال من فقه الفرد إلى فقه الأمة.

3- وسيلة لملاحقة التطورات المعاصرة وإغناء الفقه الإسلامي بالاجتهادات المعاصرة.

4- تحقيق مبدأ الشورى، وهو المبدأ العام في حركة الأمة الإسلامية.

5- تحقيق مبدأ “التكامل” بين المجتهدين، بما يجعله الأقدر على معالجة قضايا الأمة بخبرات مختلفة ومتعددة.

بهذه المقدمات الرباعية التأسيسية لمفهوم الاجتهاد المعرفي  والتي تناولنا فيها الفضاء اللغوي والاصطلاحي والحضاري لمعنى الاجتهاد، وواقع فكرة الاجتهاد في العقل الجمعي”الاجتهاد المعرفي”، والاجتهاد كنهج معرفي،  والدائرة الحيوية للاجتهاد المعرفي أو عالم أفكار الأمة، و بعض مجالات الاجتهاد المعرفي، واختتمنا في هذه الحلقة متطلبات الاجتهاد المعرفي وشروطه. نكون بذلك قد وصلنا إلى نهاية هذه المقدمة التأسيسية والتي ندعو فيها شباب الباحثين في العلوم الشرعية والإنسانية والاجتماعية لاستكمال هذا الطرح ومناقشته ونقده من أجل تطوير الفكرة وتحقيق إيناعها الثقافي في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية.

 

 


([1]) جمال الدين عطية: “شروط المجتهد وأدوات الاجتهاد”، مجلة المسلم المعاصر، العدد (7)، السنة الثانية، سبتمبر 1976، ص6.

([2]) محمد فاضل الجمالي: “رأي في تكوين المجتهد في عصرنا”، مجلة المسلم المعاصر، العدد (39)، ص132.

([3]) المرجع نفسه، ص132 .

([4])المرجع نفسه،  ص132.

([5]) المرجع نفسه، ص132 – 133.

([6]) عماد الدين خليل: “حول الاجتهاد الضرورات والحوافز ووسائل التحقيق”، مجلة المسلم المعاصر, عدد(47),  ص27.

([7]) جمال الدين عطية: “العمل العلمي المنشود”، مرجع سابق، ص7-8.

([8]) محمد فاضل الجمالي: “رأي في تكوين المجتهد في عصرنا”، مرجع سابق، ص133.

([9]) زهور أبو مهدي: “الاجتهاد الجماعي وضرورته في العصر الحاضر”، مجلة المسلم المعاصر، العدد (159)، السنة (40)، مارس 2016، ص96.

([10]) المرجع نفسه، ص99 – 106 (باختصار).

([11])زهور أبو مهدي: “الاجتهاد الجماعي وضرورته في العصر الحاضر”، مرجع سابق, ص107 – 111. (باختصار).