يعاني المسلمون سوء فهم كبير لعمارة الدنيا وارتفاق الكون، ويعرضون عن منطوق ومفهوم قوله تعالى:﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ (يونس،61) فنِسب التخلف المادي عندهم عالية، وهم عالة على غيرهم في كثير من شؤون معايشهم، مع أن دينهم يدعوهم إلى عزة  الإيمان، وهم حقيقون بذلك، ولكن هذه العزة يجب أن تعتضد بالمال والأخلاق والبنيان، فذلك هو ما يجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.

إننا نشهد في ديارنا فقرا مدقعا في الصناعات والحِرف، فكثير منا مستعبد لمصانع الشرق، أو الغرب، أو المارد الصاعد في الصين القصية، وتقول الدراسات الاقتصادية أن التنمية المتزنة قائمة على نسب متوازية، ثلاثون في المائة منها  للزراعة، ومثلها للصناعات والحرف، والباقي للأمن والإدارة والخدمات، ولكن قومنا قلبوا  تلك النسب، فقل ّمنهم العاملون الكادحون، وشاعت لديهم ثقافة احتقار العمل والكدّ والعرق، لأن المهنة ارتبطت عندهم وضعا بالمهانة كما هو المأثور في القاموس العربي، حيث كان العربي في جاهليته يحتقر الحِرف وعمل اليد والزرع، ويعلي من الغزو ونيل المكاسب بالتجارة وحدها.

 ولذلك لابد من خطة رشيدة محكمة لتعظيم الحرفة وكدّ اليد، وإعادة الاعتبار لأهل الحرف والصناعة من المصممين والصناعيين والميكانيكين والرصاصيين والحدادين والبنائين ممن لا تستغني عنهم أي عمارة أو نهضة حضارية.

والقرآن الكريم المرشد مليء بالإشادة بهؤلاء الأنبياء الذين احترفوا وعملوا ورعوا الغنم، فأبو المرسلين نوح عليه السلام كان نجارا:﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ (هود، 37)، وإبراهيم كان راعيا مستثمرا في الأغنام والبقر والثروة الحيوانية: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ (69)

وداوود عليه السلام كان حدادا يأكل من عمل يده:﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾  (الأنبياء، 80)، ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ  أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾  (سبأ، 10-11)

وذكروا أنه كان يقسم يومه ثلاثا، ثلث للقضاء وفصل الخصومات، وثلث للحرفة للأكل من عمل اليد، والباقي للتسبيح والعبادة: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ﴾  (سبأ، 10).

ومن قبلهم سيدنا إدريس الذي كان خياطا، وهو أول من خط القلم، ففي الأثر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أنه قال لرجل جالس عنده وهو يحدث أصحابه: ادن مني فقال له الرجل: أبقاك الله، والله ما أحسن أن أسألك كما سأل هؤلاء، فقال: ادن مني فأحدثك عن الأنبياء المذكورين في كتاب الله أحدثك عن آدم إنه كان عبدا حراثا، وأحدثك عن نوح إنه كان عبدا نجارا، وأحدثك عن إدريس إنه كان عبدا خياطا، وأحدثك عن داود أنه كان عبدا ‌زرادا، وأحدثك عن موسى أنه كان عبدا راعيا، وأحدثك عن إبراهيم أنه كان عبدا زراعا، وأحدثك عن صالح أنه كان عبدا تاجرا” (المستدرك، 4165)

وسيدنا زكريا عليه السلام كان يعمل في النجارة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”كان ‌زكريا ‌نجارا” (المستدرك، 4145).

 وسليمان عليه الصلاة والسلام سخرت له الرياح والجن والإنس: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ، 13)، كما ازدهرت مملكته بالعمارة وصناعة الزجاج والبلور، كما هي قصة الصرح وإسلام بلقيس ملكة سبأ.

وكل الأنبياء باشروا رعي الغنم تأنيسا لهم، وإعدادا لقيادة البشر، لأن المقتدر على ترويضها وتأنيسها وإحاطتها يكتسب مهارات عديدة في الإدارة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله نبيا ‌إلا ‌رعى ‌الغنم»، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (البخاري، 2262)

وقد أشار الإمام المجد بديع الزمان النورسي إلى إرشاد القرآن من بعيد  إلى أسرار معجزات الأنبياء التي  تستبطن دافعية للعمل، وأومئ إلى تقفي أسرارها بما يعين البشر على عمارة الأرض واستخراج دفائنها، فالإنسان يمكنه تسخير طاقة الريح استشفافا من معجزة سليمان عليه السلام :﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴾ (الأنبياء، 81)، وكذا استنباط الماء وتفجير خيرات الأرض من معجزة موسى عليه الصلاة والسلام :﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ﴾  (البقرة، 60) .

جاء النبي صلى الله الله عليه وسلم، ووجد العرب في الحجاز معرضين عن الصنائع والحرف تبعا لبيئتهم البدوية القليلة الاحتياجات، ووجد اليهود ممسكين بتلابيبها، فهم صنّاع الحلقة والسلاح، وهم صيارفة الذهب والفضة، وأدوات الحراثة والمنزل، فدفع أصحابه إلى مباشرتها وتعلمها، وجعلها خير مراتب الأرزاق، فعن المقدام رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “ما أكل أحد طعاما قط، خيرا من أن يأكل ‌من ‌عمل ‌يده، وإن نبي الله داود عليه السلام، كان يأكل ‌من ‌عمل ‌يده” (البخاري، 2072)، بل إنه جعل الكدح والتعب والنصب من أطيب الأرزاق، ففي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الكسب أطيب؟ قال: «عمل ‌الرجل ‌بيده، وكل بيع مبرور»، وهو ما قاله بعض المفسرين في قوله تعالى:﴿ ياأَيُّهَا الرُّسُلُ ‌كُلُوا ‌مِنَ ‌الطَّيِّبَاتِ ‌وَاعْمَلُوا ‌صَالِحًا ﴾ (المؤمنون، 51).

 والمتتبع لمناشط السيرة يجد بجلاء خططه عليه الصلاة والسلام في هذا، فقد بعث الحِرف في مدينته وشجع على منافسة اليهود، وأقطع المعادن والمناجم، وأبطل عادات وهواجس الخوف من الجن والغيلان فيها بالصدع بالآذان، وبعث الصحابة إلى جرش لتعلم حرفة الأثقال والمنجنيق، وكان عليه الصلاة والسلام في مهنة أهله يخصف نعله ويرقع ثوبه، ويقضي شؤونه، وهو خير العالمين.

وتبارى الصحابة عليهم الرضوان في قلب الأوضاع العربية، وازدهرت المدينة المنورة بالحرف والحرفيين، والشواهد على ذلك ثرى، ويحسن العودة إلى كتابين مهمين في الإنجازات الحضارية لدولة المدينة، أولهما كتاب الإمام الخزاعي التلمساني “تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله من الصنائع والحرف والعمالات الشرعية”، والكتاب المتمم له “التراتيب الإدارية في العملات والصنائع والمتاجر والحالة العلمية التي كانت على عهد تأسيس المدينة الإسلامية في المدينة المنورة العلية” لعبد الحي الكتاني.

ولم تكن المرأة بعيدة عن مجال الصنائع والحرف والعمل اليدوي، فتذكر كتب السنة جملة منهن زينب بنت جحش أم المؤمنين، وريطة زوجة عبد الله بن مسعود، وقد استوفي الكتاني جملة منهن في كتابه” التراتيب الإدارية”.

كان التوجه إلى الاستقلال الاقتصادي في الحرف عاما، فكان الصحابة يدربون مواليهم على تعلم الحرف ويستحثونهم للمكاتبة ابتغاء تحريرهم بمكاسب أيديهم، فهذا نافع يروي عن ابن عمر أنه كان يكره أن يكاتب عبده إذا لم يكن له ‌حرفة قال: يقول: «تطعمني من أوساخ الناس؟» (مصنف عبد الرزاق، 15585)، وفي مراسيل أبي داود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا﴾ (النور: 33)، قال: «إن علمتم منهم ‌حرفة، ولا ترسلوهم كلاّ على الناس» (185).

واستمر النشاط الحرفي في ازدهاره، ففي بضع سنوات شيّد المسلمون عمائرهم ومدنهم ومرافقهم في البلاد المفتوحة، خاصة في زمن الخليفة المؤسس للدولة الإسلامية عمر بن الخطاب، والذي كان قيوما على العمل، عدوا لذودا للبطالة والاستخذاء، وهو القائل: إني أرى الرجل فُيعجبنى فأقولُ: له ‌حِرْفةٌ؟ فإن قالوا: لا؟ سقطَ من عَينى”.

وعلى هذا الهدي بزغت شموس علمية استقلت بحرِفها عن مد أيديها، أو طرق أبواب السلاطين، فكان من علمائنا الكثير من المنسوبين للحرف والصنائع كالقدوري، والجصاص، والخصاف، والبزاز، ويكفي بإمام أهل السنة الإمام أحمد الذي جمع الأحاديث من أقاصي الأرض، وعمل حمالا في الأسواق، وما نقص ذلك منه، وهو القائل “مع المحبرة إلى المقبرة.

إن على المسلمين اليوم وخاصة العرب منهم إعادة الاعتبار للصنائع والحرف، فالنهضة تبدأ من الورش، والمؤسسات الصغيرة، والحضارة تنطلق من الإبرة لتصل إلى الصاروخ، وأما دعاوى الكسب السريع التي ركن إليها بعض شبابنا، وانتشار الثقافة الحاطة من المهنة وأصحاب البدل الزرقاء والأعمال الشاقة، والقدوات السيئة لبعض رجال المال، والإشهار الخاطئ لرجال الفن والرياضة، والتربية الناعمة للجيل، فكل هذا عوائق للهمم، وسدود دون بلوغ القمم.