من المهمات التي لا تنفك عن عمل العلماء وترتبط بأصالة وجودهم، هو رؤية أين وضع الأمة ومكانتها في سلم العلم والمعرفة؟ ومقارنته بما يجب أن تكون عليه حين التراجع والانحطاط العلمي، وهو ما ألمح إليه  علال الفاسي في رسالته، والذي بوبته هنا تحت عنوان “الاستنفار العلمي ومواجهة حالة التخلف” وهذا يتطلب أولًا أن يدرك علماء الأمة ودعاتها في تكوينهم الفكري الفروق الجوهرية بين النموذجين المعرفيين التوحيدي الذي ينطلق من الوحي القرآني، والنموذج الغربي الذي ينطلق من النظريات الوضعية الغربية التي نتجت عن سياقات اجتماعية وتاريخية خاصة بالبيئة الغربية في العصر الحديث. وهنا يشير الفاسي إلى “أن الفرق بين النظرية الدينية وبين النظرية العلمانية في الغرب هي أن الأولى تعتبر أن كل ما في هذا العالم من مظاهر وآثار مرده إلى قوة أعلى وأسمى من هذا العالم بينما ترفض الثانية تفسير تلك الظواهر إلا على أساس لا وجود فيه لإله أو قوة فوق الطبيعة، وما ذلك في واقع الأمر إلا إمعان في الخصومة بين رجال الحركة العلمية ورجال الكنيسة. على أن رد فعل روحاني وقع من طرف مجموعة من الفلاسفة والعلماء الذين حاولوا الإصلاح بين المسيحية وبين العلم. وهذه المحاولة هي التي تكون شتى المدارس الفلسفية والعلمية التي ابتدأت بديكارت واسبينوزا وانتهت بهيجل وكانت[1]، وقد كانت نهايتها الفشل لكونها نظرت إلى الدين كمجرد حاجات اجتماعية أو تخيلات مثالية وبلغت في القرن التاسع عشر المادية مستواها الأعلى منذ ظهر فخته وبوخنر[2]، ومنذ ظهرت الأفكار التجريبية في الفلسفة النفعية وتقدم الاكتشاف العلمي في ميدان طبقات الأرض وعلوم الحياة وعلم النفس التجريبي، وقد مهد ذلك كله لقبول الفكر الغربي نظرية المادية التاريخية التي برزت كرد فعل آخر لتكتل الرأسمالية وحلولها محل الإقطاعية القديمة”.

كذلك ينبه إلى تأثير الأفكار الغربية في الواقع الإسلامي من خلال المشروع التغريبي القاهر للأمة المغلوبة عسكريًا وماديًا بالإضافة إلى التراجع العلمي السافر وسيادة الجمود والتقليد “…فإزاء هذا الهجوم الجارف على المجتمع الإسلامي وقع انفصال كامل بين التراث العربي بما فيه من ثقافة ودين وبين الناشئة التي لم تعد تجد مربعًا لدراستها وتلقى معارفها إلا في مدارس الغرب ومعاهده العليا وهي كما يعرف الجميع لا يمكن أن تعني في قليل ولا كثير لا باللغة العربية وأسرارها، ولا بالحضارة الإسلامية ومفاخرها ولا بتعاليم الإسلام وأخلاقه لأنها على أحسن الأحوال تؤمن بأن من الإحسان للشعب الأهلي أن ترفعه إلى المستوى الثقافي الذي عليه أبناء المستعمر وتوحدهما توحيد العبد مع السيد. وقد استيقظ المسلمون اليوم فوجودا الأغلبية الساحقة من أبنائهم بعيدة بعدًا كليا عن أية معرفة إسلامية وعن كل لغة عربية”.

شمولية مفهوم العلم في الإسلام

   وفي هذا الإطار المفاهيمي يقدم الفاسي رؤيته حول مفهوم “العلم” في الإسلام والذي يراه شاملًا لكل ما يصلح حال الإنسان، ويسعى في عمران الكون، وليس فقط ما يطلق على العلوم التي ترتبط بالوحي أو السنة أو الفقه والتي عرفت في عصور التقهقر “بالعلوم الإسلامية” بينما أطلق على العلوم التي تتصل بحياة الإنسان العلوم الطبيعية (التي تتصل بالمادة) أو العلوم الإنسانية والاجتماعية ( التي تتصل بالإنسان والمجتمع) وهو تصنيف غربي بالأساس انتقل إلينا بعدما عزلت أوروبا “الدين” عن مجالات العلم “.. إن العلم في الإسلام لا يخص ما يرجع للعقائد والشرائح ولكنه يعم كل ما يمكن أن يعلم ويؤدي إلى استكمال البناء الصالح للمجتمع مما يتوقف عليه وجوده من دين ودنيا وسياسة وتقنيات وغيرها، منها ما هو فرض عين واجب على كل مكلف ومنها ما هو فرض كفاية إذا قام به من يسدون حاجة المجتمع إليه سقط الطلب عن الآخرين وإلا كانوا جميعًا متحدين في المسؤولية”.

وقد سارت الحضارة الإسلامية في عهودها الزاهرة على مبدأ المشاركة في العلوم  مع التخصص في بعضها، أي أن العلماء المسلمين لم يكونوا بعيدين عن الثقافة العامة مقتصرين على ما يتخصصون فيه من العلوم. رغم عدم إهمالهم التخصص، وذلك على عكس الاتجاه الذي تسير به الحضارة الغربية الحديثة التي تجعل من المتخصصين أفذاذا فيما يتخصصون فيه بينما تبقيهم شبه أميين في المسائل العامة التي يحتاج إليها كل مجتمع لبنائه أو ترميمه وإصلاحه.

وخريجو دار الحديث[3] اليوم على رغم انصرافهم مبدئيًا بدراسة علوم القرآن والحديث وما نسميه ببعض علوم الآلة أو المسعفات، فمن الضروري أن يكونوا على بينة من التطور الذي ينشأ في المجتمعات الحديثة والتيارات المتضاربة التي يعيش فيها العصر، ومقارنة الملل والنحل الحديثة واستخراج الأدلة الناجمة من الكتاب والسنة التي تعطي المقياس الصحيح للحكم على كل ذلك والتعريف بالنافع له والضار والموافق للإسلام والمعارض له.

هذه الصفات هي التي تجعل العلماء قابلين لتحمل المهمة الملقاة على عاتقهم وهي مهمة الدعوة إلى الله، والتعريف بالإسلام الحق ومناصحة الأمة بحكامها وشعوبها بما يجب أن تسير عليه في بناء المجتمع الصالح، والحضارة النافعة والثقافة الشاملة.

 التخلص من القابلية للاستعمار

     ومن محاور مهمة ” الاستنفار العلمي” -أيضا- أن يقوم العلماء بدورهم في تخليص المسلمين مما وقعوا فيه من “القابلية للاستعمار” واعتبار تقدم الغرب هو نهاية العالم، وأنه لم يعد بمقدور الأمة النهوض مرة أخرى من كبوتها، مما تسبب فيما أسماه الفاسي “بعقدة سمو الغرب”.

لقد أصبح الكثير من المسلمين اليوم وفي جملتهم أهل العلم والفكر مرضى بعقدة سمو الغرب وعلومه ووسائله وانحطاط المسلمين ومعارفهم، وذلك بما بلغ إليه الغرب من تقدم حضاري وصناعي لا ينكر، ولكنه لا ينبغي أن يؤثر علينا في إيماننا بأنفسنا وبقيمة الأصالة التي لتراثنا الثقافي والحضاري على الرغم مما يغطي عليه من غبار الأجيال المنحطة والصور المنحلة والقيم المختلفة المهمة الأساس للعلماء أن ينفضوا ذلك الغبار عن تلك الجواهر الكريمة من ثقافتنا وعلومنا وحضارتنا، وأن يعتبروا أنها كانت العطاء الأصيل الأكبر للإنسانية استمد منها الغرب والشرق وبنو عليها ما أعطوه هم الآخرون من تقنيات حديثة وتطور في مواجهة الحياة والتغلب على عقباتها والتطلع إلى بناء العالم الأفضل الذي تنشده الإنسانية جمعاء، ذلك العالم الذي لا يقوم ولا يتم إلا بعودة الروح الإسلامية للمجتمع المعاصر، أي إلا إذا أصبح العلم والدين أخوين متوازيين في السير وفي الهدى للإنسانية، وهذه ثانية المهمات التي يتحملها علماؤنا الأبرار إذا قدروا العلم الإسلامي قدرة ومنوا بأنه الحق من ربهم، وبأنه الغاية من دعوة الإسلام التي لابد منها لهداية البشر وإرشاده في كل زمان ومكان.

إن المهمة الأساس للعلماء هي أن يزيلوا عن نفوسهم ونفوس المسلمين قاطبة تلك العقدة التي خلفها المستعمرون في نفوسنا حينما تغلبوا علينا واستعمروا أوطاننا وبهرتنا حضارتهم ومعرفتهم فأنستنا ما كان لنا من مجد وما في مقدساتنا من كنوز خفية لابد من أن تبرز متى أعدنا للعلم قيمته إلى جانب الين ومتى آمن بالغاية التي خلق الله الإنسان بما أنه إنسان لها، أي خلافة الله في الأرض وعمارتها، وبناء المجتمع الإسلامي العالمي فيها، وإن لنا في وصايا الرسول ومبشراته ما يجعلنا نتيقن بأن هذه الأمة ستبقى خالدة بخلود القرآن {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر:9] وليس يعني الله بحفظ القرآن بقاءه في المصاحف وفي الأوراق ولكن في الصدور وفي العقائد والشعائر والشرائح، وذلك هو المجتمع الرباني الذي يقوم على أكتاف العلماء الوارثين لرسالة النبوة وإعلامها.

ولولا أن للعلماء هذه المهمات العظيمة ولولا أن الله علم أنهم لابد أن يقوموا بها وأنهم قادرون عليها متى صمموا العزم واستمدوا من قدرة الرسول وصحبه والعلماء السابقين لهم، ما جعلهم في مقام الوراثة للأنبياء، ولما قال فيهم تعالى{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ  وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }[ المجادلة:11 ] وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] فقرنهم سبحانه بنفسه وبملائكته، في القيام بالقسط ونشر العدل والدعوة إليه، وقيامهم بذلك يجعلهم شهداء في الأرض بوحدانية الله مقيمين عليها الدليل والبرهان عن طريق العلم والعقل، الحكمة والفكر.

وفوق ذلك فقد أناط بهم دوام البحث العلمي واستنباط الأدلة واستخراج البراهين واكتشاف الأنظمة الإلهية في الكون وفي الحياة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا  وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ  إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ  إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28(} [ فاطر ]، وجعل لهذا البحث العلمي الدائم شروطه القائمة على السمع والبصر والعقل والقلب، على الملاحظة والتجربة في المحسوسات والنظر والفكر في المعقولات والممارسة والمجاهدة في القلبيات، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ  إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] فالبحث العلمي يحتاج إلى دقة البحث والتبصر وإلى الإخلاص في تقرير النتائج الأمر الذي يستوجب الجو الصالح والحرية الكاملة وعدم تعرض الدولة أو الأفراد للحيلولة بين الباحثين ووسائل بحثهم وحرية جهودهم والإعلان عن استنتاجاتهم.

 


[1,2]  من فلاسفة عصر النهضة الأوروبية.

[3] دار الحديث الحسنية مؤسسة تعني بالتعليم الديني في المغرب.