عني الإسلام منذ مجيئه بالاقتصاد كأحد أركان الحياة التي لا يمكن إغفالها ولا الاستغناء عنها، باعتباره أحد دعائم حياة الإنسان أيا كانت ديانته ومعتقده.

وإن كان البعض يرى أن نظرية الاقتصاد هي نظرية غربية بحتة، فهذا الأمر يعوزه الصحة، فالإسلام جاء بنظرية اقتصادية متكاملة، وهذا لا يعني إنكار ما ينتجه العقل الغربي من أفكار وإسهامات في مجال الاقتصاد أو غيره، وإنما المنكر في الأمر هو ادعاء أن الإسلام لم يأت بنظرية اقتصادية، والعارف بالإسلام يرى أن الاقتصاد أحد أركانه الكبرى.

إن أول ما يلفت الانتباه في حكمة وجود الإنسان على الأرض أن الله تعالى ذلل له سبل العيش والحياة فيها، من خلال تسخير كل ما في الكون للإنسان، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].

وفي فلسفة الاقتصاد الإسلامي تشبه الأرض ( قصر الملك) فالأرض قصر الله، فمن عادة القصور أن تكون واسعة شاسعة، والأرض شاسعة واسعة، ومن عادة القصور أن يكون سقفها عاليا، وكذلك الأرض، فالسماء سقفها عال جدا، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32].

ومن عادة قصور الملوك أن يكون السقف مزينا، وكذلك السماء زينها الله تعالى بالنجوم الباهرات، كما قال سبحانه وتعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت: 12]، بل من عادة من ينظر إلى سقف القصور أن يطيل النظر فيها، وكذلك السماء، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } [الحجر: 16].

ومن عادة القصور أن يكون بها أعمدة ضخمة وقوية، وعلى قدر فخامة القصر على قدر اتساعه وكثرة عمده، وكذلك السماء بها عمد وهي الجبال، كما قال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان: 10]، ومن عادة القصور أن يكون بها بعض المساحات المائية التي تزيد القصر جمالا، وقد جعل الله تعالى قصره الأرض بها أنهار وبحار ومحيطات، بل جعل بين المالح والعذب حاجزا لتتكون الثروة المائية بتنوعها، كما قال تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل: 61].

ومن عادة القصور أن يكون بها أشجار ونباتات تزينها، وكذلك السماء، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا } [فاطر: 27]، ومن عادة الملوك في قصورهم أن ينوعوا حدائقهم في قصورهم، وكذلك الأرض، كما قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]..

وكل ذلك وغيره مما خلق الله تعالى لعباده في الأرض، هي المكونات الأساسية للاقتصاد، ومنه ما يعرف في الفقه الإسلامي بـ(شركة الإباحة)، وهي باللغة المعاصرة اشتراك الناس في الموارد العامة، كالبحار والأنهار والجبال والغابات والطاقة والثروات المتعددة، وقد جعل النبي أسس ( شركة الإباحة) في حديثه المشتهر، ” الناس شركاء في ثلاثة: في الماء، والكلأ والنار.

وحين فسر كثير من العلماء هذا الحديث وقفواعن ظاهره، من كون الماء لا يجوز احتباسه عن الناس، وأن انتفاع الناس به يجب أن يكون عاما، وأن الكلأ النابت من السماء شركة بين الناس، لهم الانتفاع به لمرعى حيواناتهم، وأن النار يجوز الاستدفاء بها إن كانت من الأشجار العامة.

والحق أن هذا الحديث من كليات الأحاديث التي ضم بين كلماته القصيرة أساسيات الاقتصاد العام.

فالحديث يتكلم عن الموارد المتجددة التي لا تنضب ولا تنتهي، ويلفت الانتباه إليها، والعناية بها، وتنميتها تنمية صالحة للناس جميعا.

 

الشراكة في الماء

فقول عليه الصلاة والسلام إن الناس شركاء في الماء، إشارة إلى العناية بـ (الموارد المائية)، والعناية بالأنهار والبحار، وكيفية الاستفادة من تلك الموارد المائية، وأنه لا يجوز احتكارها؛ لأن منفعتها للجميع، وهذا ما يتوافق مع القوانين الدولية.

كما أن الحديث عن شراكة الماء فيه إشارة إلى (الثروة السمكية)، وأنها عامة للناس، فلكل الناس الحق في الصيد من البحار والأنهار والمحيطات، ويكون دور الدولة هو التنظيم وليس المنع، وفيه تشجيع على الثروة السمكية، وما ينتج عن ذلك من أثر في الأسواق، وحاجة الناس إلى هذا النوع من الطعام.

الشراكة في الكلأ

وحديث النبي عن الشراكة في الكلأ فيه إشارة عن (الثروة الحيوانية)، وتشجيع الدولة أفرادها على تنمية الثروة الحيوانية، مما يترتب عليه كثرة المعروض من لحوم الإبل والبقر والغنم والماعز، مما يعني رخص اللحوم في الأسواق، ومما يعني تصدير تلك اللحوم، ليكون له أثر في نهضة الاقتصاد ونماؤه داخليا وخارجيا.

كما أن فيه إشارة إلى الثروة الزراعية باختلاف أنواعها، وإن كان الكلأ ينبت في الجبال عادة، ففيه إشارة إلى العناية بالزراعة الجبلية، بالإضافة إلى الزراعية السهلية.

الشراكة في النار

ومقصود النبي عن شراكة البشر في النار، هو العناية بالطاقة بجميع أنواعها، خاصة ما يعرف بالطاقة الطبيعية التي تتولد عن النار أو البترول أو الشمس، أو ما يتولد عن حركة الرياح، وحاجة الناس جميعا إلى تلك الطاقة التي يستفيد منها الناس في الإنتاج والحياة.

إن عناية الإسلام بالموارد الطبيعية هو أساس من أسس الاقتصاد القائم على تدبير الممتلكات بأحسن وجه يمنع من التبذير أو التلف، وأن ينتفع بها على الوجه الصالح للإنسان.

وإن كان العلماء المعاصرون قد عرفوا الاقتصاد بأنه: ” النشاط البشري الذي يشمل إنتاج وتوزيع وتبادل واستهلاك السلع والخدمات.” فإن الإسلام قد جاء بنظرية فائقة في الاقتصاد القائم على تحقيق مصلحة الناس، لأن الله الذي خلقهم  على الأرض؛ ذلل لهم سبل الحياة فيها، ورزقهم علم الاقتصاد حتى تكون الحياة على الأرض حياة طيبة كما سماها ربنا سبحانه، ولذا، فمن الجائز لنا أن نصف الاقتصاد في الإسلام باعتباره اقتصادا إنسانيا.