انفصال السوق المالي عن السوق الحقيقي من الممكن أن يؤدي إلى أزمة شبيهة بأزمة عام 2008.. هكذا تنبأ الأستاذ الدكتور محمد عبد الحليم عمر أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر ومدير مركز صالح كامل سابقا..

وعن حدوث هذا الانفصام داخل الاقتصاد الإسلامي وآلياته المتعددة قال عمر: “إن منظومة المباديء الحاكمة للاقتصاد الإسلامي تجعل هذا الانفصام مستحيلا”.

واستشهد على ذلك بعبارة قال إنها صارت مبدأً من مباديء التي يبنى عليها الاقتصاد الإسلامي ككل، وهي بحسبه تعبر عن وعي الفقهاء بمثل هذا الانفصام، وهي”ويمنع من جعل النقود متجرًا فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، بل الواجب أن تكون النقود رءوس أموال يتجر بها ولا يتجر فيها”.

الحوار إذن ناقوس إنذار بين يدي نهم رأسمالي يصيب الاقتصاد العالمي في مقتل، ومحاولة لوضع بعض الحلول الممكنة تفاديا لأزمات طاحنة يمكن أن تمر بها المؤسسات الكبرى جراء تعاملات غير منضبطة.

 

تحدث بعض المختصين عن خطورة الاقتصاد المالي وتضخمه على حساب الاقتصاد الحقيقي.. ما تعليقكم؟

– نعم.. هذا حقيقي.. هناك انفصام واضح بين الاثنين؛ ذلك لأن الاقتصاد في حقيقته هو النشاط الذي يدور حول توفير السلع والخدمات لإشباع الحاجات الإنسانية من خلال وظائف اقتصادية مثل الإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك، ولكن هذا يتطلب التبادل؛ لأنه لا يوجد أحد يمكنه إنتاج ما يحتاجه من سلع وخدمات بنفسه، والتبادل يحتاج إلى تمويل ومن هنا وجد الاقتصاد المالي لخدمة الاقتصاد الحقيقي.

ولكن السوق المالية انفصلت عن السوق الحقيقية، وأصبح التعامل يتم في النقود والتمويل ذاته بيعًا وشراءً من خلال المداينات والائتمان، وترتب على ذلك أن أصبح حجم التمويل المتاح من خلال الائتمان أضعاف قيمة الاقتصاد الحقيقي؛ مما أدى إلى خلل في التوازن بينهما.

ولما كان الاقتصاد المالي أصبح لا يستند إلى قاعدة من الأصول، وإنما إلى أهرامات من الديون التي ركبت بعضها فوق بعض في توازن هش، ومن أجل المزيد من كسب العوائد في صورة فوائد وفروق أسعار، لذا فإن وجود خلل في إحدى حلقات الديون المركبة كما حدث في توقف المقترضين في سوق التمويل العقاري عن سداد القروض، ادى إلى انهيار البناء المالي بكامله، وهذا بالمناسبة ما حدث وقت الأزمة المالية العالمية في العام 2008م.

 

– تقصد أن أحد أهم أسباب الأزمة المالية هو هذا الانفصام، وأن استمراره بصورة أو بأخرى يمكن أن يعيد الأزمة مرة ثانية؟

– بالتأكيد.. فما حدث سابقا هو أن المؤسسات المالية قدمت قروضًا هائلة للتمويل العقاري بلغت حوالي 11 تريليون دولار لشراء المنازل، كما قدمت مبلغًا مماثلا بصفة قروض استهلاكية بموجب بطاقات الائتمان، ثم قامت ببيع هذه القروض إلى شركات التوريق، وأعادت إقراض ما حصلته في تمويل عقاري جديد مرات متتالية.

وقامت شركات التوريق بإصدار سندات بقيمة هذه القروض وطرحتها في أسواق المال، وتم تداولها وبيعها لآخرين ومنهم إلى غيرهم في تيارات متتالية، وذلك بأسعار أكثر من قيمتها الاسمية اعتمادًا على ما تدره من فوائد والتي بدأت بسيطة لمدة سنتين ثم تتزايد بعد ذلك.

وفي المقابل قام المقترضون أصحاب المنازل بإعادة رهن العقارات بعد تقويمها بمبالغ أكثر من قيمتها الأصلية، والحصول على قروض من مؤسسات أخرى والتي بدورها باعت هذه القروض إلى شركات التوريق التي أصدرت بموجبها سندات، وطرحتها في أسواق المال والبورصات للتداول.

وفي خطوة ثالثة تم إصدار أدوات مالية (مشتقات) للمضاربة على فروق أسعار هذه السندات، وتم طرحها في الأسواق هي الأخرى، وتم تداولها منفصلة عن السندات، وبالتالي حملت المنازل بعدد كبير من القروض التي تفوق قيمة هذه المنازل، وانقطعت الصلة بين حملة السندات وبين المقترضين بضمان العقارات.

وحينما تشبع السوق العقاري، وقل الطلب انخفضت أسعار المنازل أو العقارات، وفي ظل تزايد الفوائد وعدم قدرة أصحابها على إعادة بيعها، أو رهنها والحصول على قروض جديدة توقفوا عن سداد أقساط القروض وفوائدها، وهنا بدأت أسعار السندات في الانخفاض، واتجه حملتها إلى بيعها بخسارة، وتوقفت المؤسسات المالية عن الإقراض؛ نظرًا لتعثر المقترضين السابقين، وبالتالي قل الطلب مرة أخرى على العقارات فانخفضت قيمتها.

ومن المقرر قانونًا أن المؤسسات المالية المقدمة للقروض رغم بيعها تعتبر مسئولة مع شركات التوريق عن متابعة تحصيل الأقساط والفوائد وتسليمها لحملة السندات، وبتوقف المقترضين عن السداد تركوا المنازل للمؤسسات المالية، والتي أصبحت قيمتها أقل بكثير من قيمة القروض، فضلا عن عدم إمكان هذه المؤسسات بيعها؛ للركود الحاصل في سوق العقارات…

وبالتالي أصبحت هذه القروض رديئة لا يمكن تحصيلها والممولة أصلا من ودائع عملاء آخرين، فبدأ العملاء في سحب جماعي لأموالهم عجزت معه المؤسسات المالية عن مواجهة السحب فأعلنت إفلاسها، وفي المقابل انخفضت أسهمها وأسهم شركات الاستثمار العقاري التي تقدم قروضًا أيضًا فأدى ذلك إلى انهيار الأسواق المالية.

 

– معنى ذلك عدم تأثر الاقتصاد الحقيقي ؟

– لا.. ليس المقصود ذلك أبدا.. فرغم الانفصام الواقع بين الاقتصاد الحقيقي، والاقتصاد المالي فإن آثار الأزمة ستمتد إلى الاقتصاد الحقيقي؛ لأن الانهيار المالي للبنوك سيجعلها تكف عن الإقراض حتى عن الجزء الصغير الذي يوجه منها للشركات الإنتاجية، بما يجعلها تقلص إنتاجها وتطرد بعضًا من عمالها.

ومن جانب آخر، فإن الخسارة التي مني بها المواطنون جراء تعاملهم في الأسواق المالية جعلتهم يخفضون مشترياتهم من الشركات الإنتاجية وبالتالي يقع الركود الاقتصادي.

 

– هذا يقودنا للسؤال الأهم.. هل يعاني الاقتصاد الإسلامي على مستوى المبادئ من هذا الانفصام؟

أبدا.. في الاقتصاد الإسلامي مبادئ تجعل هذا الانفصام مستحيلا.. مثلا: أي تيار مالي لابد أن يقابله تيار سلعي في ربط محكم، ولا يسمح الإسلام بجني أرباح من خلال التيارات المالية وحدها، وإلا كان هذا ربا.

ولذا جاء القرض الحسن الذي يمثل تيارًا ماليًا شرع من أجل حاجة المقترضين للإنفاق على السلع والخدمات، وبدون أن يحصل المقرض على زيادة على قرضه، ومجرد التعامل في النقود ذاتها.

وهناك عبارة تراثية تنبئ عن فهم عميق لمثل تلك الأمور من فقهاء الإسلام الأول، وهي: “ويمنع من جعل النقود متجرًا فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، بل الواجب أن تكون النقود رءوس أموال يتجر بها ولا يتجر فيها”.

 

– على ذكر الاقتصاد الإسلامي.. هل ترون أن المجال الآن أوسع أمام اعتماد مبادئ الشريعة الإسلامية كأسس للاقتصاد العالمي، بمعنى أن ذلك أصبح مطلبا أثبتته التجارب وستتبناه تلك الحكومات والأنظمة رغما عنها؟

– أنا لن أرد عليك بكلام من عندي، لكني أؤكد أن هذا المطلب أصبح نابعا من داخل المجتمع الرأسمالي ذاته، وهذه ليست شماتة في الرأسمالية أو تعصبًا لديننا، ولكنها كلمة حق يقول بها بعض الغربيين الآن.

منهم مثلا العالم الاقتصادي الفرنسي البارز “موريس آليه” والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1988م، والذي كتب مقالا مطولا بعنوان: “الشروط النقدية لاقتصاد الأسواق.. من دروس الأمس إلى إصلاحات الغد” سطر فيه انتقادات حادة إلى أسلوب عمل الأسواق المالية والنظام المالي الرأسمالي، وتنبأ فيه بحدوث أزمات حادة، وشبه البورصات وما يتم فيها بـ ” كازينوهات للمراهقين والمقامرين”.

المهم في هذا المقال القيم أن الرجل قدم مجموعة من الإصلاحات، كلها تتفق مع ما جاء به الإسلام، ولهذا فقد استضافه المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي بجدة ليلقى محاضرة ضمنها هذه الآراء وقام المعهد بترجمة ونشر المحاضرة تحت سلسلة محاضرات العلماء البارزين عام 1993م.

أيضا هناك مقال لـ “رولاند لاكسين (Roland Laskine)، رئيس تحرير صحيفة “لوجورنال دي فايننيس” Le Journal des fienance 25 / 9 / 2008م، جاء عنوان المقال: “هل حان الوقت لاعتماد مبادئ الشريعة الإسلامية في وول ستريت” يقول فيه: “إذا كان قادتنا حقًا يسعون إلى الحد من المضاربة المالية التي تسببت في الأزمة فلا شيء أكثر بساطة من تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية.

أيضا هناك “بوفيس فينست (Beaufils Vincent) رئيس تحرير مجلة تشالنجر (Challenger) كبرى الصحف الاقتصادية في أوروبا، حيث كتب مقالا افتتاحيًا للجريدة في سبتمبر 2008م على ما أذكر، بعنوان: “البابا أو القرآن” ومما جاء فيه: “أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من أحكام وتعاليم وطبقوها، ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد نقودًا”.

وغير تلك الشهادات التي انطلقت من هناك وتثبت أن المجال بالفعل أصبح مفتوحا وبشدة أمام البديل الإسلامي ليتبوأ مكانه الصحيح في قيادة الاقتصاد العالمي، وهذا من إعجاز الإسلام وكتابه المحكم؛ حيث يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].