يعد تشكيل العقل من أخطر العمليات التي يقوم بها الإنسان، فبناء العقل أصعب ألف مرة من ناطحة سحاب، ذلك أن بناء ناطحة سحاب أصبح عملا آليا، ربما لا يستغرق عددا من الشهور،  أو السنين القليلة، وهي أشبه بالعمل الذي يأخذ منحى (الدورة المستندية)، أو ما يسمى في عمل الإدارة ( إدارة المشاريع)، غير أن بناء العقول من الناحية الفكرية لم يستطع أن يصل إلى ما وصلت إليه المشاريع الإنشائية، أو الحسية، بمعنى أن يكون بناء العقل أشبه بالمنتج، وإن أخذ جانب الفكر والثقافة، ولا يعني هذا أن يكون بناء العقل أشبه بالقوالب الجامدة، بل هي قوالب متعددة ومتنوعة حسب أسس البناء المعرفي، فتتشكل تشكيلات قد لا يكون لها حصر، لكن المقصود هو تنظيم البناء العقلي، بحيث ينتقل من العشوائية إلى التنظيمية، ومن الانتقائية إلى الترتيبية، ومن المجهول إلى المعلوم، والغريب أن تشكيل البناء المعرفي قديما كان أكثر تنظيما من الآن، فقد امتازت المدارس القديمة، فكرية كانت أو فقهية بالمنهجية القائمة على الأصول، التي تنتهي إلى ( منتج فكري)، قد يكون الوصول إلى الانتماء إلى المذهب الفقهي، فيلقب كل شخص بأنه فلان بن فلان بن فلان المالكي، أو الشافعي، أو الحنفي، أو الحنبلي، وهذا اللقب لا يؤخذ اعتباطا، وإنما يمر عبر منهجية ودراسة بطريقة علمية معينة، حتى يستطيع الحصول على هذا اللقب، أو أن يترقى إلى درجة أعلى، وهي درجة (الاجتهاد)، فلا يكون مقلدا في المذهب، وإنما مجتهد، وهذه أيضا على درجات، إما أن يكون مجتهدا في المذهب، ( مجتهد تخريج)، وهو الذي يفتي في المسائل المعاصرة على أصول المذهب، أو ( مجتهد ترجيح) ، وهو الذي يرجح القوي من الضعيف والراجح من المرجوح في المذهب الواحد إن كان في المسألة أكثر من رأي في المذهب، أو يكون ( المجتهد المستقل) الذي يمتلك أدوات الاجتهاد المطلق، لكنه ارتضى أصول اجتهاد أحد الأئمة الكبار، وإن كان يساويه في مكنة الاجتهاد، أو أن يرتقي ليكون ( المجتهد المطلق)، وهم كبار الفقهاء الذين يخطون لأنفسهم أصولا خاصة لاجتهادهم.

وفي المجال الأرحب من الفقه، وهو الفقه، استطاع الأوائل أيضا أن يخطوا لهم منهاجا فكريا، وإن تعددت المخرجات الفكرية المتنوعة، حسب المذاهب الفكرية، ومع هذا الاختلاف في المدارس الفكرية القديمة، لكن المتتبع لها يظهر منها أنها مبنية على أصول فكرية ومنهجية علمية، وهذا يعني أن (المنتج الفكري) قائم على أصول ثابتة، ربما نتفق مع بعضها أو نختلف، لكن الذي لا ينكر أنها لم تأت عبثا أو بعشوائية، هو كما الحال الآن، رغم كثرة الدراسات المعرفة والثقافية، وتنوع الوسائل، وتوافر المراجع والمصادر، والاطلاع على المدارس الفكرية في بلاد غير المسلمين، غير أن الملاحظ في ( الإنتاج الفكري) المعاصر أنه يبتعد كثيرا عن المنهجية، ولا يخرج  مفكرين أصحاب منهجية واضح في الغالب، وأن التميز في البناء الفكري إنما يرجع إلى اجتهاد بعض الأشخاص بشكل فردي دون أن يكون مبنيا على الإنتاج المؤسسي الذي يرعى إخراج فقهاء أو مفكرين.

ولعل البناء الفكري في مجتمعاتنا يحتاج إلى المؤسسية، وإعادة إنتاج العقل بناء على معطيات وأصول ومنهجية علمية واضحة، ويكون ذلك بناء على الاستفادة من المدارس العلمية القديمة، باعتبار أنها استطاعت أن تنجز لنا مخرجات علمية من القامات العلمية الكبرى على مر العصور، على أن تراعي خصوصية العصر الذي نعيش فيه ، ومتطلباته، حتى ننتج لعصرنا فقهاء ومفكرين يجمعون بين الأصالة والمعاصرة، يحترمون التراث ولا يقدسونه، يفكرون في إيجاد حلول لمشكلات العصر، بأصول منهجية، وإدراك للواقع.

إن من أهم الوسائل التي تعين على إخراج بناء فكري مؤسس هو ما يعرف بـ ( التوريث العلمي)، ليس فقط من خلال الإشراف الجامعي على رسائل الماجستير والدكتوراه، بل يتعدى إلى ما يمكن أن نطلق عليه (التبني العلمي)، بحيث يكون لكل عالم عدد من طلاب العلم الذين يرثون منهجه قبل آرائه الفكرية والفقهية، وأن يمارسوا الاجتهاد الفكري والفقهي في حضرته، وأن يقوم بدور الإشراف على التكوين والإبداع، شريطة أن لا يتحيز الفقيه أو المفكر لآرائه، بل يتسع صدره لخلاف طلابه له، ما داموا يسيرون على منهجية علمية واضحة.

ورغم وجود محاولات وتجارب ليست بالقليلة في مجال التكوين العلمي والفكري والدعوي أيضا، إلا أن الأمة مازالت تفتقر إلى (المنتج الفكري) المبني على التأسيس العلمي الواضح، ومن هنا يأتي دور التخطيط قبل التنفيذ، والمتابعة أثناء التنفيذ، والتقييم لكل مرحلة من مراحل تكوين البناء المعرفي، ثم توظيف تلك الطاقات في كل مرحلة من المراحل، فليس هناك مرحلة للتعليم منفصلة عن مرحلة التعلم، بل يبقى الإنسان دائرة بين التعلم من غيره وتعليمه غيره، حتى يصبح الأمر أشبه بـ ( التعليم العنكبوتي) الذي لا ينتهي، وهو ما يمكن أن نفهمه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم:” بلغوا عني ولو آية.

وكما أن من أهم أسس البناء الفكري والمعرفي العناية بمهارات العلوم من ناحية، والمخرجات من ناحية، فليس العلم مقصودا لذاته، وإنما هو وسيلة لغايات أعظم، وأن نقبل التنوع والتعدد مادام لم يخرج عن قطعيات الدين وأصوله الثابتة، وأن يكون لها في قبول التنوع متسع، عملا بقاعدة الفقهاء:” لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المتفق عليه”.

كما أن في تكاتف وتكامل المؤسسات الرسمية من المدارس والجامعات مع المؤسسات غير الرسمية المعنية بقضية التعليم والفكر ما يساعد في الإسهام بإعادة النظر والتأسيس المعاصر للبناء الفكري والمعرفي.

على أن هذا البناء لا يمكن له أن يكتمل دون أن يتبنى نظرية ( تكامل العلوم)، وأن التخصص القاصر على فرع من فروع العلم فضلا عن التخصص في علم دون غيره، لا يمكن معه إصلاح البناء المعرفي في الأمة، بل لابد من إيجاد أرضية مشتركة بين العلوم، وإن كانت على مستويات، بحيث يكون المتعلم ملما بأصول العلوم والمعرفة على وجه الإجمال، وإن تخصص في علم على وجه التفصيل، وقد قالوا:” اعرف شيئا عن كل شيء، واعرف كل شيء عن شيء”.