صعد الخطيب المنبر في مسجد جامع، فخطب عن حقوق الجار، فكان جل كلامه مكرورا، وجل معانيه معروفة مطروقة، ربما لم يكن فيها معنى غريب سوى ما أسنده إلى النبي من قوله : ” كمْ مِنْ جارٍ مُتعلِّق بجارِه يقولُ: يا ربِّ! سَلْ هذا: لمَ أغْلقَ عني بابَهُ، ومَنَعني فَضْلَهُ؟! “.([1]) فلما قضيت الصلاة، ظن خطيبنا أن المصلين سيوقفونه مستشكلين سائلين : وكيف النجاة وكلنا يغلق بابه عن جاره ويمنعه فضل ماله!

فإذا ببعض المصلين يستوقفه معلقا : وكأننا كنا جلوسا على مقهى من المقاهي نستمع إلى حديث عن حقوق الجار، فليس في خطبتك مزيد كلام عما يتناقله الناس في نواديهم عن هذا الموضوع! أين ذهبت إبداعاتك وإشراقاتك!

أُسقط في يدي الخطيب، وانتابته دهشة عظيمة من هذا التعليق، كيف لم ترتعد فرائص هذا الرجل من الحديث الذي ذكره: “كمْ مِنْ جارٍ مُتعلِّق بجارِه يقولُ: يا ربِّ! سَلْ هذا: لمَ أغْلقَ عني بابَهُ، ومَنَعني فَضْلَهُ؟! إن الحديث يتعلق بمعصية لا يكاد يفلت منها أحد في زماننا هذا، فمَن منَّا لا يغلق بابه دون جاره؟ ومَن منا لا يمنع فضل ماله عن جاره؟ والحديث يتوعد من يفعل ذلك بأن يعتقله جاره يوم القيامة ويمسك بخناقه، طالبا من الله عقد محكمة للفصل في هذه التهمة، تهمة إهمال الجار، لتبلى السرائر، ويقدم الرجل دفاعه، ليحكم الله تعالى في القضية!

وسواء أكان هذا الحديث جديدا في معناه على المسامع، أو مكرورا ملّته الآذان إلا أنه يبقى مفزعا مخيفا، يستحق من سامعه أن يتأمل ويتفكر في كيفية النجاة إذا كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

البحث عن الطرافة

إن هذا الموقف العابر يكشف لنا عن ثقافة جديدة لدى قطاع عريض من المسلمين، أصبحوا يتعاملون مع الحديث الديني مكتوبا كان أو منطوقا وكأنه مادة فنية، لا بد أن تكون جذابة في معانيها، آسرة في كلماتها، وهي لن تبلغ هذا المبلغ إلا إذا كانت جديدة كل الجدَّة، طريفة كل الطرافة، عذبة كل العذوبة، تملك على النفس أقطارها من كل جانب!

ومكمن الخطر في هذه الثقافة الجديدة أنها تنظر إلى الحديث الديني على أنه مادة فنية، لا مادة توجيهية، تحتوي على بلاغ دين الله عز وجل للعباد.

إنها تنتظر من الحديث الديني كلمات تشنف الآذان، وتغذي العقول، وتأخذها في سباحة عقلية طريفة ماتعة، إنها تتعامل معه كما تتعامل مع القطعة الشعرية أو النثرية، وتفاضل بين حديث وحديث بهذا المعيار الأدبي الفني متجاهلة التبعات التي تلقيها هذه الكلمات، متجاهلة أنه ما من معنى ديني يُذكر إلا ويكون حظ السامع أو القارئ منه أنه يكون حجة له، أو عليه، فعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله : ” …والقرآن حجة لك أو عليك”([2])

إن مثل هؤلاء كمستمعي القرآن الذين تأخذهم النشوة بصوت المقرئ فتحيلهم إلى مجموعة من السكارى من عذوبة الصوت، طالبين من المقرئ الاستزادة، وإن كانت الآيات تتوعد وتنذر، مرددين عبارات الفرح والحبور والرضا بالوعيد والنذير !

القرآن وسطوة البيان

وإن كان هؤلاء السكارى لا تسكرهم إلا عذوبة الصوت وألحانه، فإن التاريخ قد حدثنا عن سلف لهم، أخذتهم سطوة بيان القرآن، من أولئك عتبة بن ربيعة، الذي ذهب يفاوض رسول الله على تركه دعوة ربه، فقرأ عليه رسول الله آيات من صدر سورة فصلت :”بسم الله الرحمن الرحيم {حم?، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون، بشيرا ونذيرا} ثم مضى رسول الله فيها يقرؤها عليه فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه؛ ثم انتهى رسول الله -- إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك.

فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به؛ قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه؛ قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.([3])

لم يتأثر عتبة بن ربيعة بالقرآن، ولكنه تأثر بالبيان، وقد كانوا أهل البيان.

وكذلك فعل الوليد بن المغيرة حينما تملكته سطوة بيان القرآن، فوصفه فقال : والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لجناة،  أو كما قال في رواية أخرى : “والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه، مغدق في أسفله، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى عليه.

وفي هذا الإعجاز البياني للقرآن، يقول الإمام الخطابي: “في إعجاز القرآن وجه ذهب عنه الناس، وهو صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب (صوت خفقان القلب) والقلق، وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب… “([4])

ومن ذلك، ما روته كتب السيرة حينما كان يقرأ سيدنا أبو بكر رضي الله عنه القرآن في صلاته في بيته في مكة أيام كان في جوار مالك بن الحارث (ابن الدغنّة)

يقول الراوي:

(فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين).([5])

ومعنى يتقصّف: أي يزدحمون ويكتظون حوله مأخوذين بجمال القرآن.

ومثل ذلك ما تفعله سطوة القرآن بسامعيه من غير العرب الذين لا يفهمون منه شيئا، لكن لا تتركهم سطوة القرآن إلا وقد تركتهم أسارى سطوته.

ليس لوحة فنية

ليس معنى ذلك أننا نعيب الصوت الحسن في القرآن، أو أننا ننكر أثر حلاوة الصوت في استجلاب الخشوع والتدبر، أو أننا ننكر أثر ما للبلاغة وحسن البيان، وطريف المعاني، وبراعة الاستهلال، وحسن الختام في الحديث الديني من أثر في جذب القلوب وإقناع العقول..لا، فإننا لا ننكر شيئا من ذلك، ولكن الذي ننكره أن يتحول التعامل مع الحديث الديني وكأنه لوحة فنية، يبحث فيها المستمع أو القارئ عن عذوبة اللفظ، وجودة السبك، والروعة التي تستهوي اللب، وتستخف السمع، منتظرين أن يقفوا أمام سحره واجمين، وأن يخروا لسطوته ساجدين!

فحتى لو أفلح الخطيب في بلوغ هذه الغاية من مستمعيه، فإنه يكون قد خرج بالخطبة عن هدفها الموضوع لها.

 


([1]) صحيح، السلسلة الصحيحة رقم (2646)

([2]) رواه مسلم برقم (223)

([3])سيرة ابن هشام ت طه عبد الرؤوف سعد (1/ 261)

([4])[خاتمة كتاب: بيان إعجاز القرآن، للخطابي المتوفى: 388هـ]

([5])[البخاري: 2297]