تمثل العبادات والواجبات الدينية ساحة واسعة ومهمة لعمل التربية، بما يساهم في بناء شخصية إسلامية متوازنة وإيجابية، تؤدي نشاطها الاجتماعي والحضاري في توازن نفسي واجتماعي في آن واحد. ومن ناحية أخرى فإن العبادات لم تفرض لذاتها وإن كان جوهرها “الامتثال” لحكم الله وطاعته، إلا أن الشارع جل وعلا أردف حكمه بالغاية من أداء العبادات وهي تحقيق “التقوى“، والتقوى فعل باطني وظاهري في الإنسان يشمل الاعتقاد الوجداني والسلوك الاجتماعي معًا. فهي مظهر وجوهر لحركة الإنسان وعلاقاته العليا (مع الله) وعلاقاته الأفقية (مع الناس). نتناول في هذه المقالة أحد العبادات المفروضة وهي “الصوم” في تأمل لأهم أبعاد  تلك العبادة وظلالها التربوية، وأثرها في واقع الفرد والمجتمع.

ماهية الصوم

الصوم: ترك الشيء والإمساك عنه.. فالامتناع عن الكلام يسمى صومًا )إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا([1] والإمساك: تعريف عام للصوم يشمل الإمساك عن الفعل مطعمًا كان أو كلامًا، أو مشيًا. والصوم في الشرع إمساك المكلف بالنية من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن تناول الأطيبين، والاستمناء، والاستقاء[2]. وعن كل ما يفسد الصوم.

فالصوم في هذا الفضاء اللغوي يعني تحقيق الامتثال بالامتناع عن القيام بالفعل من خلال الجوارح في وقت محدد ومعلوم يسمى بوقت “الصوم”، والصوم في القرآن جاء على نوعين: صوم عن الكلام، وصوم عن الطعام والشراب، كما جاء الصوم فريضة وتطوعًا وكفارةً عن ارتكاب بعض الذنوب والمعاصي.

وأشهر أنواع الصيام صوم رمضان الذي هو ركن من أركانه الإسلام “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، “[3]. فهذه دعائم خمس للإسلام يمثل “الصوم” أحد أركانها.

تزكية النفس

الصوم عبادة خفية لا يعلم حقيقتها ومصداقية العبد في أدائها إلا الله تعالى، ولا يطَّلع فيها البشر على تلك الحقيقة، قال الله عز وجل “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”[4] ، والصوم –أيضًا- عبادة ترتبط بتفعيل فعل “المراقبة” الذاتية من الصائم لله تعالى، وتحري الالتزام الباطني بأوامر “الغيب”، ومن ثم يتحقق فيها تجديد الإيمان بالغيب، وتجديد عمل الوجدان بالارتباط بهذا الغيب وإمعان التأمل فيه من خلال الاعتقاد التام – للصائم – بمراقبة الله تعالى له، وإثابته على تلك العبادة التي يرتبط أداؤها بالإخلاص والصدق والأمانة كشروط أساسية لهذه العبادة التي هي بالأساس “سر” بين العبد وربه.

إن تنشيط حالة “مراقبة الله”، والاعتقاد الوجداني الجازم بإطلاع “الله” على فعل “الصوم” للعبد، يرقى النفس الإنسانية بما تحمله من انفعالات وأحاسيس نحو “خلوص” العبادات لله تعالى، “وخلوص” العمل في الظاهر – كما في الباطن – لله تعالى وتصويب نية الإنسان وعزمه ومقصده بأن يكون نحو الله كاملاً في كل الأفعال والأقوال والأحوال.

ومن ناحية أخرى يحقق “الصوم” فضيلة “العفة” فشطر الحديث ” .. يدع شهوته وطعامه من أجلي”. فالله تعالى يباهي بالصائم  الذي يترك الحلال، ويمتثل للغيب في هذا الترك، فالأولى بالإنسان الذي ترك الحلال في الصوم أن يترك الحرام في الصوم وغيره، إن الامتناع في “السر” عن الحلال من منطلق الإيمان بالغيب، واستحضار الله تعالى، يكون تربية وبناء دافعية الامتناع عن الحرام “في السر والعلن”.

وعند الحديث عن علاقة التربية والصوم، نجد أن الصوم يأتي مهذبًا لنشاط الجسد ونشاط غرائزه الجنسية فهذا نداء النبوة للشباب “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء”، أي وقاية. إن الانحرافات التي يمكن أن تحدث بسبب نشاط الغرائز عند الشباب ومقابلتها عدم القدرة على الزواج يمكن أن تواجه بالصوم الذي يرتبط بتحقيق غاية “التقوى” والتي يقوم فيها الإنسان باستحضار معية الله في نظراته وسكناته وحركاته فتقل الإثارة، ويوجه نشاط الإنسان الصائم إلى غير معصية الله في ساعات الصوم التي ترتبط بتوهج يقظة حواس الإنسان وحركته. إن الصوم يوفر للإنسان مقومان لفعل التزكية (التطهير) وهما– المراقبة بالغيب لله تعالى، واستحضار الله في جملة النشاط والحركة الظاهرة. فتظل نفس الإنسان متعلقة بطلب الكمال في القرب من الله تعالى على هذا النحو، وتسعى إلى التطهر الذي يمكِّنها من تحقيق غاية القرب في أكمل صورها.

التربية الفقهية

يتضمن الصوم جملة كبيرة من التعاليم الفقهية التي ينبغي للمسلم أن يكون على إلمام ومعرفة وعلم بها، حيث أنها – تلك التعاليم الفقهية- تمثل أحكام أحد أركان الإسلام الخمسة. والعلم في هذا الباب فرض على كل مسلم بالغ عاقل، ويفضل التنشئة على تلك التعاليم لمن يتهيئون لدخول مرحلة البلوغ أيضًا، أي الذين يدخلون مرحلة وجوب الصوم، صوم الفريضة.

وقدمت كتب الفقه أبوابًا متنوعة في الصوم، تتضمن عددًا من التعاليم الفقهية المستمدة من القرآن والسنة النبوية، ومن أهم هذه الأبواب:

1 – أنواع الصيام: الفرض، التطوع، الكفارات، النذور.

2 – أحكام الصيام .

3 – مفطرات الصيام.

4 – مبيحات الصيام.

5 – مستحبات الصيام ومكروهاته.

6 – قضاء الصيام، ما يستحب منه وما يكره.

7 – ما يكره ويحرم من الصيام.

ومن أكثر أنوع الصيام التي أشار إليها الوحي عند التعرض لآيات الصيام هو ما يتعلق بصيام الكفارات كما في الآيات الآتية:

1 – ما يتعلق بالإخلال بإحدى شعائر الحج (البقرة 196، المائدة 95).

2 – ما يتعلق بكفارة الظهار (المجادلة 4) .

3 – ما يتعلق بالقتل الخطأ (النساء : 92) .

تعد هذه التعاليم الفقهية ضرورية لبناء ذاكرة إسلامية أصيلة تنمي وعي المسلم وتساهم في تكوين ثقافة إسلامية راشدة تحفظ للمسلم وعيه “الفقهي”، الذي ينعكس بالضرورة على سلوكه ونشاطه الحضاري بصفة عامة، وسلوكه الاجتماعي اليومي.

التربية الاجتماعية والأخلاقية

في علاقة التربية والصوم، يعيد هذا الأخير ترتيب العلاقات الاجتماعية، وتجديد الإطار الأخلاقي للمجتمع المسلم، قال صلى الله عليه وسلم“… فإن كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم”.[5]

فالمجتمع الصائم: مجتمع يخلو من فحش القول، وينقي نفسه من الجهالة والتسفيه والتنابز بالألقاب، ويهيمن التسامح واللين والبشر على خُلق أفراده الصائمين، ودفع السيئة بالحسنة، بما يعضد من لحمة علاقاته الاجتماعية ويجدد تشييدها.

إن المجتمع الصائم الذي يتوجه بكل خلجاته وانفعالاته نحو الله تعالى مجتمع أبعد من أن يُفسد هذا التوبة وهذا التوجه الروحي بالتشاحن والقتال، فهو أقرب في سلوكه إلى التغافر منه إلى المنابزة، وأقرب إلى التواد منه إلى البغضاء، وأقرب إلى البنيان المرصوص (الصف الواحد) منه إلى التشرذم والعنصرية والطبقية فوحدة التوجه الداخلي (للصائمين) يوجب بالضرورة وحدة التوجه الخارجي لهم ) يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ( [الصف/4].

كما أكدت النبوة أن الغرض من الصوم ليس هو الجوع والعطش، أو الصبر عليهما، أو اختبار قدرة الجسد على التحمل، ولكن قصد الصوم كما تبيّنه النبوة الراشدة هو تطهير المجتمع من سوء الأخلاق وفحشها،  قال صلى الله عليه وسلم ” ليس الصيام من الأكل والشرب، وإنما الصيام من اللغو، والرفث، فإن سابك أحد، أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم”. بل إن فعل التزوير والمساعدة عليه والوقوع فيه ينقض الصيام من أساسه قال –صلى الله عليه وسلم-“من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”. وينعي – صلى الله عليه وسلم- على أولئك الذين لم يحصِّلوا من صومهم إلا مشقة الجوع والعطش وفقط وتركوا لجوارحهم العبث في المجتمع، بالتنابز والقتل وشهادة الزور وسوء الخلق على الجملة  “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع .[6]

ومن أخلاق الصائم الاجتماعية – أيضا – الجود، أي البذل والعطاء الغزيرين وكان رسول الله –  صلى الله عليه وسلم – أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة في صومه.

التربية الزمنية

الـ(زمن) – كما عرفه ابن منظور – هو اسم لقليل الوقت وكثيره، ويجمع على أزمان وأزمنة وأزْمُنٌ. وترتبط عبادة (الصوم) بالمواقيت والوقت والزمن بدءًا من معرفة شروع الصوم حتى الإفطار، ومعرفة بدايات الشهور، ونهايتها التي يتحدد في ضوئها صيام الفروض والنوافل والسنن.

وفيما يتعلق بصيام الفريضة – شهر رمضان- فإنه يتصل الأمر بمعرفة بدء الشهر –أي دخوله- وكذلك نهايته أي خروجه، يقول صلى الله عليه وسلم  “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته”[7]، والرؤية هي ميقات تعرف به بداية الشهر ونهايته – والصوم نفسه في اليوم يتطلب معرفة (الخيط الأبيض من الأسود من طلوع الفجر) ليشرع الصائم في صومه، أو غروب الشمس وزوالها ليفطر.

إن عبادة “الصوم” ترسم خارطة زمنية لتوقيتات المسلم تتضمن حدود الصوم: بدايته ونهايته، وهذه التوقيتات وإن كانت مسئولية عامة للمجتمع، فإنها مسؤولية أفراده أيضًا. قال الترمذي في قوله -صلى الله عليه وسلم- ” صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته”: تُقبل شهادة رجل واحد في الصيام –أي دخول الشهر- وزاد الشوكاني في الصيام والإفطار، أي دخول الشهر وخروجه. ومع تقدم الأجهزة الفلكية فإن المسلم عليه أن يكون عالمًا بكيفية إدراك دخول الشهر والخروج منه لاسيما وأن الأمة كلها ملتزمة بهذه الرؤية. وكذلك في بدء الصيام لليوم الواحد(الخيط الأبيض من الخيط الأسود) والإفطار (تحقق غروب الشمس).

تربية حدود العلاقة بين الزوجين

         يقدم الصوم نوعًا آخر من التربية للصائم يتعلق بالعلاقات الزوجية -حال الصيام- بما يتوافق مع مبدئية الشريعة في مراعاتها للفطرة الإنسانية، وحتى لا تتضارب غايات الشريعة وتسير في تكامل وتوازن لتحقيق بناء الشخصية المسلمة صوب غاية التقوى – كما ذكرنا في مقالة سابقة )فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (اليسر العملي في الشريعة الإسلامية    هذا النوع من التربية الذي يوضح حدود العلاقات بين الزوجين في وقت الصوم والذي أباح الشارع فيها قيام العلاقة الزوجية كاملة- أثناء الإفطار والتوقف عنها أو الامتناع أثناء الصوم – لعلمه تعالى بطبيعة النفس وقدرتها على التحمل، )عَلِمَ  اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ( [البقرة/187] وجعل من هذه العلاقة مباحًا وحلالًا بعد أن كانت محرمة ) أحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ( [البقرة / 187] وذلك من أجل رفع الحرج وتجنب المشقة.

هكذا ترسم عبادة الصوم خارطة للتربية الإسلامية تتضمن التزكية الوجدانية (باستحضار النية والمراقبة لله تعالى والتعلق بالغيب) والجانب المعرفي ( بالتعرف على الأحكام الفقهية الواجبة للصائم) والجانب الاجتماعي (ويتضمن السلوك الاجتماعي للصائم وما ينبغي أن يكون عليه سواء في علاقاته الزوجية الخاصة، أو علاقاته بالآخرين في المجتمع بصفة عامة) وكذلك التربية على تقدير الوقت والعناية بالزمن باعتباره محورًا رئيسًا في أداء هذه العبادة التي تقوم مثل كل العبادات على التوقيت والزمن.


[1] أحمد عبد الفتاح: القاموس القويم للقرآن الكريم، ص386.

[2] الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص500 .

[3] رواه البخاري ومسلم.

[4] رواه البخاري ومسلم.

[5] رواه البخاري ومسلم.

[6] مسند عبدالله بن المبارك.

[7] رواه البخاري.