تمر عملية الاجتهاد في النوازل بعدة مراحل؛ حتى توصل الفقيه المجتهد إلى استخراج حكم شرعي يناسب النازلة المجتهد فيها، وهذه المراحل هي: مرحلة التصور، ثم مرحلة التكييف، ثم مرحلة التنزيل، ولكل منها شروط وضوابط وإجراءات، تجب العناية بها حتى نصل إلى صناعة الحكم الشرعي في النازلة.

يقول الإمام السبكي- رحمه الله-:” حق على طالب التحقيق ومن يتشوق إلى المقام الأعلى في التصور والتصديق أن يحكم قواعد الأحكام ليرجع إليها عند الغموض وينهض بعبء الاجتهاد أتم نهوض ثم يؤكدها بالاستكثار من حفظ الفروع؛ لترسخ في الذهن مثمرة عليه بفوائد غير مقطوع فضلها ولا ممنوع.

أما استخراج القوي وبذل المجهود في الاقتصار على حفظ الفروع من غير معرفة أصولها ونظم الجزئيات بدون فهم مأخذها، فلا يرضاه لنفسه ذو نفس أبية ولا حامله من أهل العلم بالكلية” [1].

المرحلة الأولى التصور

تعريف التصور: عرف الجرجاني التصور بأنه : ” حصول صورة الشيء في العقل ، وإدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات [2]، وهو يكاد يكون مرادفا للعلم [3]، وجعله الغزالي مرادفا للمعرفة وجعل التصديق مرادفا للعلم. [4]

وقسم الكفوي التصور إلى نوعين:

التصور العام: وهو حصول صورة الشيء في العقل.

والتصور الخاص: وهو الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع[5].

وليس من التصور التخيل ولا التوهم، لأن التخيل تصور لا يثبت على حال، أو أنه تصور الشيء ببعض أوصافه دون بعض، والتصور يكون بجميع أوصافه، أما التوهم فهو تجويز مالا يتمنع من الواجب والجائز، كتوهم الشيء متحركا وساكنا في آن واحد، كما أن التوهم ينافي العلم، وهو يشتمل المدرك وغير المدرك، بخلاف التصور القائم على العلم والإدراك[6]

وجعل العلماء كالغزالي والقرافي وغيرهما أن إدراك أي نازلة لا يكون إلا بالتصور والتصديق، والتصور مقدم على التصديق، وكل تصديق لابد أن يتقدمه معرفتان أو تصوران، هما: تصور المفرد وتصور المركب، لأن من لا يعرف تصور المفرد لا يمكنه معرفة المركب، وكل من التصور والتصديق ينقسم إلى ضروري لا يطلب بالبحث، ومطلوب أو نظري، وهو يحتاج إلى بيان وتفسير، فيعرف ذلك بالحد،  والمطلوب من المعرفة طريقه الحد، والمطلوب من العلم الذي يحتمل الصدق والكذب طريقه البرهان، فآلة العلوم المطلوبة؛ الحد والبرهان، ويقدم الحد على التصور والتصديق، ويقدم التصور على التصديق[7].

والحد الحقيقي لا يكون إلا واحدا، هذا بخلاف الحد اللفظي، فهو يكثر بتعدد الأسماء، كما أنه قد يكون للحد عوارض؛ يكثر بها، لكنه لا يكون إلا حدا واحدا في الحقيقة[8].

وحقيقة التصور أن يكون لدى المجتهد فهم دقيق للنازلة، وذلك من خلال جمع المعلومات الكافية حول القضية، وإعطاؤها حقها من الإيضاح والاستيعاب[9]. وذلك أنه لا يمكن للإنسان أن يحكم على شيء إلا إذا كان عنده تصور كامل عنه، ولهذا حدد أبو البقاء الفتوحي أن علم أصول الفقه يُستمد من ثلاثة أشياء: من أصول الدين، ومن العربية، ومن تصور الأحكام؛ فالأحكام إما أن تثبت من جهة ثبوت حجية الأدلة، فهو أصول الدين، وإما من جهة دلالة الألفاظ على الأحكام، فهو العربية بأنواعها، وإما أن يكون التوقف من جهة تصور ما يدل به عليه، فهو تصور الأحكام. وقال: “وأما توقفه من جهة تصور ما يدل به عليه، من تصور أحكام التكليف، فإنه إن لم يتصورها لم يتمكن من إثباتها، ولا من نفيها؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره[10].

وقد أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم فقال: “ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله”[11].

وعلى المجتهد أن يبذل وسعه في تحقيق تصور النازلة، وذلك بأن يحلل القضية المركبة إلى أجزائها التي تتكون منها كما في بيع المرابحة للآمر بالشراء، فإنها تحلل إلى بيع ووعد، وبيع مرابحة بأكثر من سعر يومه لأجل التأجيل[12]؛ وذلك لأن المسائل إما بسيطة لا تحتاج إلى تحليل، أو مركبة، وتلك التي نحتاج إلى تحليلها قبل إبداء الرأي فيها.

طرق التصور

طرق التصور متعددة، فيعرف التصور بطريق مباشر، أو بطريق غير مباشر وغيرها من الطرق على النحو التالي:

فالطريق المباشر، فهو أن يجتهد الفقيه بمعرفة ماهية الواقعة بنفسه، من خلال المخالطة والمعايشة والمعاينة، ” وفي مناقب الإمام محمد الكردري كان محمد يذهب إلى الصباغين، ويسأل عن معاملاتهم وما يديرونها فيما بينهم”[13]، ولذا كان العرف معتبرا في الاجتهاد، وعد أحد الأدلة المعتبرة، ولهذا قال الإمام ابن القيم – رحمه الله-:” لا يجوز له أن يفتي في الإقرار والأيمان والوصايا وغيرها مما يتعلق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عرف أهلها والمتكلمين بها فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه، وإن كان مخالفا لحقائقها الأصلية، فمتى لم يفعل ذلك ضل وأضل” [14].

وأما الطريق غير المباشر فهو أن يسأل الخبراء والمختصين في المسألة بحيث يحصل عنده تصور صحيح لواقع المسألة، ويشهد لذلك قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43، 44]

والمقصود بالبينات الآيات التي تعلم دلالتها بالعقل، كما ذهب إلى ذلك ابن تيمية – رحمه الله.[15]

ومن ذلك سؤال الفقهاء المختصين في العلوم التجريبية إن كانت النازلة ليست دينية بحتة، كعلوم الطب والفلك والهندسة والاقتصاد وغيرها من علوم الحياة.

الطريقة الثالثة: أن يجمع بين الطريقتين، فيختبر تصور النازلة بنفسه من جانب، وأن يجمع معها سؤال المختصين، حتى يطمئن إلى تصوره، ولئلا يكون هناك تدليس من بعض المختصين، وإعمالا للطريقتين، ولا شك أنه هذه الطريقة أولى من الأوليين.

الطريقة الرابعة: ومن طرق التصور إدراك النازلة عن طريق التجربة، لأن التجربة من طرق العلم، كما نص على ذلك ابن عابدين، فقال: ” وزيادة التجربة تفيد زيادة علم قال الحموي قال مجد الأئمة الترجماني والذي يؤيده وما ذكره في الفتاوى أن أبا حنيفة كان يقول الصدقة أفضل من حج التطوع، فلما حج وعرف مشاقه رجع وقال الحج أفضل اهـ [16].

ويقول ابن سهل : « وكثيرا ما سمعت شيخنا أبا عبد الله بـن عتاب رضـي الله عنه يقـول : الفتيا صنعـة ، وقد قـاله قبله أبـو صـالح أيـوب بن سليمـان بن صالح …قال : الفتيا دُربة ، وحضور الشورى في مجلس الحكماء منفعة وتجربة ، وقد ابتليت بالفتيا فما دريت ما أقول في أول مجلس شاورني فيه سليمان بن أسود ، وأنا أحفظ المدوّنة ، والمستخرجة الحفظ المتقن … والتجربة أصل في كل فن، ومعنى مفتقر إليه »[17].


[1] – الأشباه والنظائر للسبكي (1/ 10)

[2] – التعريفات، للجرجاني (ص: 59)،ط دار الكتب العلمية، وانظر: معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم (ص: 117)، و التوقيف على مهمات التعاريف، زين الدين المناوي (ص: 98)، عالم الكتب

[3] – التعريفات، للجرجاني (ص: 155)، و الكليات (ص: 615)، و تاج العروس (33/ 127)

[4] – المستصفى (ص: 11)

[5] – الكليات، للكفوي (ص: 291)، ط مؤسسة الرسالة

[6] –  معجم الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري (ص: 126) ط مؤسسة النشر الإسلامي.

[7] – المستصفى (ص: 11) وراجع: شرح تنقيح الفصول (ص: 4)، والمحصول للرازي (1/ 85)

[8] – المستصفى (ص: 24)، وانظر: شرح تنقيح الفصول (ص: 5)، و رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (ص: 266)

[9] – راجع: ضوابط الفتوى في القضايا المعاصرة، د. عبد المجيد محمد السوسوه، أستاذ مشارك في كلية الشريعة –بجامعة الشارقة وجامعة صنعاء، ص: 254

[10] – راجع: شرح الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير أو المختبر المبتكر شرح المختصر في أصول الفقه، محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي الحنبلي المعروف بابن النجار، ص:14-15، تحقيق: د. محمد الزحيلي، د. نزيه حماد طبع: جامعة أم القرى – معهد البحوث العلمية -، الطبعة الثانية، 1413 هـ

[11] – إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم، ج1/69.

[12]- ضوابط الفتوى في القضايا المعاصرة، د. عبد المجيد محمد السوسوه، ص: 255

[13] – البحر الرائق شرح كنز الدقائق (6/ 288)

[14] – إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 175)

[15] – النبوات لابن تيمية (2/ 673)

[16] –  رد المحتار على الدر المختار (5/ 376)

[17]  – المعيار المعرب ،10 / 79 .