شهدت المعرفة الدينية في كنف الدولة العثمانية تطورا ملحوظا شهدت به كل من: المدارس التي دعمها السلاطين والتي خرجت أجيالا من العلماء والمتعلمين، والمصنفات الذائعة في شتى صنوف المعرفة الدينية، والمناهج التي طورها العلماء العثمانيون والتي ربما فاقت مثيلاتها لدى غيرهم؛ ولنضرب مثالا على ذلك بعلم التفسير الذي كان في المغرب العربي يسير على منهج الإملاء والجمع والتحليل لكنه كان في إيران والدولة العثمانية راكبًا بحر التقرير والبحث والتفكيك مغرقا فيه، كما يقول الفاضل بن عاشور، ويشهد بذلك تفسير أبو السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم).

شيخ الإسلام أبو السعود أفندي

هو أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى العمادي المولود في إحدى القرى القريبة من القسطنطينية عام 896ه، وهو من بيت عُرف أهله بالعلم والفضل والده فوالده محي الدين العمادي (ت:922ه) وهو من علماء عصره وله صلات وثيقة بالسلطان بازيد الثاني، وقد تلقى أبو السعود تعليمه على يد والده وكان له الدور الأول في إعداده وتربيته فحفظ عنه (مفتاح العلوم للسكاكي) و(شرح المواقف للشريف الجرجاني) وغيرهما، كما تلقى دروسا من مؤيد زادة عبد الرحمن أفندي(ت:922ه)، وصدر الأناضول سيدي أفندي(ت: 923)، وقيل أنه تلقى دروسًا على يد ابن كمال باشا (ت:940 ه).

شغل أبو السعود عدة مناصب رفيعة في الدولة العثمانية، وكان أول اشتغاله بالتدريس واستمر فيه سبعة عشر عاما، ثم عمل قاضيا لمدة ستة أعوام إلى أن أصبح قاضي الروم روملي، وهو أحد المناصب القضائية الرفيعة، وأمضى فيه ثمانية أعوام، واختتم وظائفه الرسمية بشغل منصب شيخ الإسلام أي مفتي السلطنة ومرجعها الديني الأعلى وظل يشغله طيلة ثلاثين، وكانت لفتاويه أكبر الأثر في تطور التشريع العثماني إلى أن توفي في نهاية القرن العاشر عام 982ه.

خلف أبو السعود رغم مشاغله ووظائفه عددا من المصنفات الدالة على علو كعبه في العلوم الشرعية، ومن أهمها: الفتاوى، وبضاعة القاضي في الصكوك، وتهافت الأمجاد على كتاب الجهاد من (الهداية) للمرغنياني في الفقه الحنفي، وتحفة الطلاب في المناظرة، ثواقب الأنظار في أوائل منار الأنوار وهو في أصول الفقه، أما أشهر مصنفاته وأكثرها ذيوعا فهو (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم).

السلطان سليمان القانوني وتفسير العقل السليم

عاصر أبو السعود أفندي أربعة من السلاطين العثمانيين الكبار وهم : بايزيد خان الثاني، وسليم الأول وسليمان القانوني وسليم خان الثاني، وجمعته بهم جميعا علاقة طيبة إلا أن علاقته توطدت بسليمان القانوني على وجه الخصوص، فيذكر المؤرخون أنه خرج بصحبة السلطان في غزواته في آسيا وأوروبا، وأنه أثناء حصار قلعة بلغراد كان يقوم بتدريس سورة الفتح من تفسير الكشاف ويملي حاشيته عليه لبعض ملازميه من الطلبة، وقد ولاه السلطان مشيخة الإسلام وجعل لفتاويه سلطة قضائية وتشريعية لم تُمنح لغيره من شيوخ الإسلام.

ومن الراجح أن علاقة الرجلين تجاوزت الأطر الوظيفية الرسمية حتى أن السلطان أُحيط علما بإقدام أبو السعود على وضع تفسير للقرآن الكريم في أخريات حياته، وأن المشاغل تصرفه عن إنجازه لأنه يكتب على فترات متباعدة كلما أتيح الوقت، وعندئذ طلب السلطان من أبي السعود إرسال نسخة مما انتهي إليه في تفسيره، فأسرع ملبيا طلبه وقدم له مجلدا مخطوطا ضم تفسيرا للسور من الفاتحة حتى نهاية ص، فلما طالعه أُعجب به واستحسن صدوره في عصره فأصدر إرادة سنية عام (972ه) بأن يتفرغ أبو السعود لإتمام تفسيره في أسرع وقت، وأمده ببعض الكتبة والمعاونين لمساعدته في أعمال النسخ والتبييض والمراجعة فاستطاع إتمامه في العام التالي وقدمه هدية إلى السلطان، وفور الانتهاء من التصنيف عكف أبو السعود ومعاونوه على إنجاز عشرات النسخ من النسخة الأصل التي جاءت في مجلدين ضخمين، وأُرسلت إلى حلب ومصر والمدينة المنورة ومكة وغيرها من حواضر الولايات العثمانية، وصارت مرجعًا في التدريس[1].

منهج أبو السعود في تفسيره

لا تعود شهرة إرشاد العقل السليم إلى وقوف الدولة العثمانية وراءه بل هناك عوامل موضوعية جعلت هذا التفسير يقابل بترحاب إسلامي كبير بعضها يتعلق بوضعية علم التفسير عموما وبعضها الآخر بمنهجية أبو السعود وخصائص أسلوبه.

أما ما يخص علم التفسير؛ فقد اتفق الدارسون على أن جل اعتماد المفسرين في تفاسيرهم كان متجها نحو تفسيرين: تفسير الكشاف للزمخشري وعليه المدار في بيان الألفاظ والتراكيب وتحليل المباني واستخراج المعاني، وتفسير الرازي ومن بعده البيضاوي وعليهما المدار في إبراز مقاصد التنزيل والكشف عن الحكمة الإلهية وما إلى ذلك، ومن ثم كانت هناك حاجة لوضع كتاب في التفسير يجمع بين النهجين، ويرفع الحرج عما كان الدارسون يلاقونه في الكشاف من نزعات اعتزالية تخالف منهج أهل السنة والجماعة، ومن هنا كان اتجاه أبو السعود أفندي لوضع تفسير جديد يجمع بين الكشاف والبيضاوي يوضح كلام هذا من ذاك وقد اختلطا في بعض التفاسير، ويضيف إليهما بعض المباحث، ويمحص ما في الكشاف من نزعات اعتزالية عملا معرفيا مقدرا[2].

وفيما يخص منهج أبو السعود، فأهم ما يميزه كما يقول صاحب (الفوائد البهية في تراجم الحنفية):  أنه “تفسير حسن ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل، متضمن لطائف ونكات ومشتمل على فوائد وإشارات”، أما صاحب (التفسير والمفسرون) فيجمل خصائص منهج أبو السعود في النقاط التالية:

-عنايته بالكشف عن بلاغة القرآن وسر إعجازه، فهو كثير العناية بسبك العبارة وصوغها، مولع كل الولوع بالناحية البلاغية للقرآن، ويهتم بأن يكشف عن نواحي القرآن البلاغية وإعجازه في نظمه وأسلوبه.

-اهتمامه بالمناسبات وإلمامه ببعض القراءات، ويقصد بالمناسبات الصلة بين الآيات السابقة واللاحقة وقد قل اهتمام كثير من المفسرين بها لدقتها، لكن أبو السعود كان حريصا عليها، كما يُلاحظ عليه أحيانا تعرضه لذكر القراءات ولكن بقدر ما يوضح به المعنى، ولا يتوسع فيها كما توسع غيره.

-الإقلال من رواية الإسرائيليات، وهي من محاسن منهجه إذ كان حريصا على عدم سرد الإسرائيليات التي شاعت في كتب التفاسير، وإن ذكرها فلا يذكرها على سبيل الجزم بها والقطع بصحتها بل يصدرها بقوله (روي) أو (قيل) مما يشعر بضعفها.

-الإقلال من ذكر المسائل الفقهية، وهي مسألة بالغة الأهمية لكونه فقيها بالأساس وكان طبيعيا أن يمزج التفسير بالفقه كما فعل القرطبي في تفسيره، لكنه كان حريصا ألا يتطرق إلى ما يخرجه عن أصل التفسير كالمسائل الخلافية والأدلة المذهبية وما إلى ذلك.

-تناول النواحي الإعرابية، حيث يعرض أحيانا للوجوه الإعرابية المختلفة للآية، إن كانت تحتمل ذلك، ويُنزل الآية على الوجوه الإعرابية المختلفة ويرجح واحدا منها ويذكر دليل رجحانه[3].

وعلى الجملة، فإن تفسير إرشاد العقل السليم يعد برهانا على ما بلغته العلوم الدينية عموما وعلم التفسير خصوصا من ازدهار في ظل الدولة العثمانية، وأن ما يشاع عن تراجع العلوم الإسلامية في ظل العثمانيين ليس صحيحا على إطلاقه.


[1] أدم رندين، نسخة المؤلف وأقدم نسخ لتفسير أبي السعود إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، استانبول: 2015، ص 216-217.

[2] محمد الفاضل ابن عاشور، التفسير ورجاله، القاهرة: مجمع البحوث الإسلامية، 2017، ج2، ص8-12.

[3] محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، القاهرة: مكتبة وهبة، ج1، ص 248-250.