يعتبر التحليل الفقهي لمنشأ الأقوال والاعتبارات العقلية والنفسية المتزامنة لها من أهم العوامل التي تشرح لنا شخصية الفقهاء، وآلية الترجيح ومدى دقة المنهجية وسلامتها وهي تفسر لنا صعوبة التجرد من المؤثرات في بعض الأحيان، ولو تأملنا حال الفقيه الذي عاش في بيئة مترفة لوجدنا الفتاوى تختلف عن الفقيه الذي عاش بين الفقراء ولامس حاجة الناس، فالأول ينظر بعين مختلفة عن الآخر ولا غرابة؛ لأن الفتوى هي اختيار للحكم المناسب وهذا الاختيار أحياناً يكون عملية شخصية ناتجة عن فهم الدليل، ولا شك أن الاختيار قطعة من عقل الإنسان.

ولو ضربنا مثالاً عمليا في زكاة الفطر، هل يجوز إخراجها نقوداً؟ خاصة في بعض البلدان التي يغلب عليها أطعمة الوجبات السريعة، والحاجة الماسة للنقود واختلاف مفهوم الطعام عن القوت الذي يكال ويوزن، فالعالم الذي لم يغادر بلده ولم يسافر لم يطلع على الحالة الواقعية للناس هناك ولن يدرك أبعاد الفتوى في عدم جواز دفعها قيمة، فهل الأولى التضييق على المحتاجين، حيث يأخذون الطعام الذي لا حاجة فيه ثم يقومون ببيعه من أجل الحصول على النقود، أم الأولى أن يأخذ النقود حتى يتم إغناؤه عن السؤال يوم العيد، بينما تجد العالم الفقيه الذي عاش مع الأقليات يراعي في فتاويه ظروف المسلمين في الأقليات ولا غرابة فالواقع والبيئة والعوارض الاجتماعية جزء لا يتجزأ من شخصية العالم وهي سبب في منشأ الأقوال.

إن العالم الذي يراعي الرأي العام للعلماء في زمانه هو أسير لهذا الرأي، ولو كان كل عالم يعتبر الأقوال ويراعيها في مواجهة الدليل لما نشأت حركة التجديد الفقهي، ولم نشاهد أقوال المجددين، وكذلك العالم الذي يراعي السلطات الأخرى، وخاصة سلطة الجمهور، وسلطة الحاكم ويخاف أن يتم تصنيفه أو اتهامه بالشذوذ، وكم رأينا على مر العصور هذه المواقف وكيف تنهض الأقوال وتستمر وتحيا في المجتمعات وكيف تموت هكذا، وقد يتم الاستقواء بالسلطة مثل ما حدث مع ابن تيمية حيث يصفه أحد فقهاء عصره شمس الدين محمد الوادي آشي: “يركب شواذ الفتاوى، ويزعم أنه مصيب”.

بينما ابن تيمية في المقابل يعتبر القضية تصحيحاً مشروعاً، لا؛ بل واجباً شرعياً لا يسعه السكوت عنه كما يقول ابن رجب: “ومُنع بسببه من الفتيا مُطلقاً، فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: لا يسعني كتم العلم”.

والآن يتم العمل بفتاوى ابن تيمية في غالب محاكم البلدان العربية خاصة في فتاوى الطلاق.

وكم ترى قولاً مشهوراً بل قد يكون قول جمهور العلماء ومع ذلك فليس فيه دليل صحيح بل أصح ما فيه رأي بعض الصحابة، وتجد كثيرا من المفتين يدرس طلابه في أصول الفقه آلية ترجيح الأقوال، وإذا وصل للتطبيق العملي تبخرت الدروس التنظيرية لعلم أصول الفقه وتجد المفتي يرجع إلى الفتوى المشهورة، ومنهج السلامة الاجتماعية والمجاملة الرسمية، وعند النقاش معه يعترف لك بلسان الحال أن فتواه هي تقليد.

ولو ضربنا مثالا في كفارة من أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر، هل يجب عليه إطعام مع القضاء؟

يرى الأغلب وجوب الإطعام عن كل يوم مقدار مد عن كل مسكين وعند النظر في دليل الوجوب، فليس فيه نص شرعي وإنما أقوال لبعض الصحابة.

وهذه الأقوال تعارض في عمومها نصوص القرآن بوجوب القضاء فقط.

فضلاً على أن أقوال الصحابة فيها استحباب للإطعام من باب أن الصدقة تطفئ الخطيئة وهي التأخير بلا عذر، وليست تحديدا لعبادة محددة بمقدار معين، وإنما تطور هذا القول عبر التراكمات التاريخية حتى وصل إلى جعله عبادة محددة، ولهذا نظائر في اشتراطات الفقهاء في تحديد بعض العموميات بغير دليل مثل أوصاف الجورب الذي يمكن المسح عليه ونوع الماء الذي يصلح للوضوء ونحو ذلك.

قال الشوكانى في كتابه “نيل الأوطار” معلقا على من يرى وجوب الإطعام: ليس هناك حديث ثابت عن النبي ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ فيها، وأقوال الصحابة لا حجة فيها، وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق، والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالتكاليف حتى يقوم الدليل الناقل عنها، ولا دليل هنا، فالظاهر عدم الوجوب.

إن تتبع منشأ الأقوال الفقهية لا يقف عند التقليد واختيار منهج السلامة الاجتماعية؛ بل قد يكون بسبب ظروف اجتماعية أخرى يصعب على الفقيه الانفكاك عنها، ومن هذا المنطلق تجد بعض الفقهاء تجبره الظروف الاجتماعية على البقاء على مذهب معين وعدم التحرر منه، مثل ما حصل مع السبكي الفقيه الشافعي، حيث إنه بلغ رتبة الاجتهاد، ولكن ما كان يستطيع مفارقة قول الشافعية، ويجيب عن ذلك أبو زرعة العراقي، حيث يقول: “إن السبكي قاضي القضاة وابنه تاج الدين قاض في الشام وبيده وظائف جلها موقوف على الشافعية، فلو ادعى الاجتهاد لسُلب منه جميع ذلك فهذا هو السبب في عدم إعلانهم اجتهادهم المطلق، ونبذهم جميع المذاهب”.

وبناءً على ما سبق ينبغي توسيع دائرة التحليل الفقهي لأقوال الفقهاء ودراستها بالارتباط مع شخصية الفقيه والبيئة والظروف التاريخية التي عاصرت العالم الفقيه فالإمام مالك ورد عنه السدل في الصلاة وهو إرسال اليدين وعدم قبض اليد اليمنى على اليسرى، ومما نقل في سبب ذلك القول ما ذكره العلماء كعمر بن عبد البر في كتابه “الانتقاء” أن مالكا ضربه جعفر بن سليمان بالسياط حتى انخلعت كتفه، فأصبح يصعب عليه قبض اليد اليمنى باليد اليسرى ورآه بعض طلابه يصلي هكذا فانتشر هذا القول عنه.

إن التفكير الفقهي النقدي بحاجة إلى الفقيه الناقد الذي يفكر ويحلل مسائل الفقه بعد الغوص في المعلومات والتحقق من دقتها وصحتها، ويتأمل المواقف التي نشأت عن هذه المسائل ثم يقيمها بناءً على الإمكانات التي لديه، ثم يطلق الأحكام بعد ذلك.

فاستخدام المنطق الفقهي والتدرب على المحاججة ومناقشة الأدلة من كلا الطرفين المختلفين، ومناقشة الآخرين تدرب مع الوقت العقلية الفقهية الناقدة، ويؤدي هذا كله إلى البعد عن السطحية في التفكير الفقهي باستخدام التقليد مثل الحكم على الأشياء أو الناس أو الأفكار بأنه واجب أو محرم بناء على رأي مشهور.