إن من كمال من الله تعالى على هذه الأمة الإسلامية وتمام نعمته عليها أن شرع لها من أمور الدين صوم شهر رمضان وجعله وسيلة مشروعة للتقرب إليه سبحانه والنيل من مرضاته، كما جعله وسيلة للحصول على التقوى، الذي به يتجنب المسلم المعاصي، ويترفع عن أعراضها من اللغو والرفث وقول الزور، ويقوي عزيمته في العبادات، فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، فكانت الحكمة البالغة من تشريع صيام رمضان ومقصده الكبير هو “التقوى”، وهي ثمرة الصيام، لكن الوصول إلى التقوى وتحقيق غاياتها يحتاج إلى أجنحة الطاعات وخصال الخيرات بالكمال.

وقد أحسن الأشقر إذ وصف آثار التقوى فقال: التقوى أعظم الخصال التي تجمع بين خيري الدنيا والآخرة، والتقوى تشرح الصدور، وبالتقوى يحبنا الله، ويتقبل أعمالنا، وبها نحظى بولاية الحيَّ القيوم، وبالتقوى تعظم درجاتنا عند ربنا، وننال بشرى ربنا في الحياة الدنيا والآخرة، ويجعل الله لنا بالتقوى فرقاناً، ويجعل لنا فرجاً ومخرجاً، وبالتقوى نحظى بلباس هو خير من اللباس الظاهري، وبالتقوى ننجو من النار، ونحظى بجنات النعيم في يوم الدين.

ما هي حقيقة التقوى؟

جاء في تعريف التقوى أقوال كثيرة وكان من أجود ما عرف التقوى ما قاله التابعي طلق بن حبيب، فإنه قال: “التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تجتنب معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله”.
فالتقوى لها جنحان، الأول: فعل الطاعات، والثاني: اجتناب معصية الله، وكلاهما صادر عن نور الله، ويريد بالنور الدليل الذي أمر بالطاعة، ونهى عن المعصية، والمتقي يفعل ما فعله يريد ثواب الله عزَّ وجلَّ، ويترك ما نهي عنه يريد النجاة من عذاب الله[1].

واختار الأشقر أن التقوى تكون بعبادة الله تعالى بفعل الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات الصادرة عن خوف الله وخشيته ومحبته، قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41] وقال سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]. وهي مجموع ما في القلب من خوف الله وخشيته وتوقيره ووتعظيه ومراقبته، وطلب ما عنده.

ما هو الطريق إلى التقوى؟

من الأمور التي يمكن أن يسأل المسلم نفسه، هو البحث عن طريق الوصول إلى التقوى، وهو أمر مضمن في التعريف السابق، فإنه لا توجد وسيلة لتحقيق التقوى ونيل ثمرته وهي الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا عن طريق العبادات، من خلال الإتيان بالأوامر واجتناب النواهي، رجاء الثواب، وهذا المعنى يتحقق في الصيام، لأنه أحد العبادات التي شرعها الله تعالى للتقرب إليه سبحانه.
وهذا ما نرى العز بن عبد السلام يطبقه حين بين رتب مشقة التقوى فقال:
الناس في التقوى ومحاسبة النفس على ثلاثة أقسام:
أحدهم: شاب نشأ في عبادة الله لا تقع منه إلا الصغائر في أندر الأوقات، فرعاية التوبة والتقوى على مثل هذا سهلة قليلة المؤنة لأن التقوى قد صارت له عادة مألوفة يلتذ بها ويسكن إليها وإذا وقعت منه الزلة استوحش بسببها وبادر إلى الإقلاع عنها والتوبة منها.
الثاني: من تاب من ذنوبه وأقلع عن عيوبه بعدما ألف المعاصي والمخالفة فنفسه تذكره بتلك الشهوات والتلذذ بها ليعود إليها والشيطان يحثه على ذلك ويدعوه إليه فرعاية التقوى والتوبة على هذا شاقة؛ لأجل ما ألفه من الركون إلى الشهوات والاستراحة من مشقة الطاعات.

الثالث: مسلم موحد مرتكب لجميع ما يهواه من المعاصي والمخالفات قد رين على قلبه بسوء كسبه فرعاية التقوى على هذا شديدة المشقة لأجل ما يفوته من تلك الساعات ولما يشق عليه من ملابسة الطاعات.

فكان الطريق إلى التقوى والتزود منها وتسهيل مشقة التقوى هو المران والممارسة على أعمال الطاعات والقربات المختلفة، يقول العز:

“الطريق إلى سهولة التقوى تكون تارة بالخوف وتارة بالرجاء فإنه إذا نظر إلى ما أعده الله لعباده الطائعين من الكرامات مال إليه بطبعه فحثه طبعه على احتمال مشقة الطاعات بفعل المأمورات وترك المنهيات وإذا نظر إلى ما توعد الله به عباده العاصين من العقوبات حثه طبعه على أن يتقيها بملابسة المشقات في إقامة الطاعات

فالخوف والرجاء وسيلتان إلى فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات ولكن لا بد من الإكباب على استحضار ذلك على الدوام واستدامته في أكثر الأوقات حتى يصير الثواب والعقاب نصب عينيه فيحثاه على فعل الطاعات وترك المخالفات[2].

وعدد الأشقر أمورا تسهل الوصول إلى التقوى والتشبع منها وامتثالها في العمل ومن هذه الأمور:

1 – تعرف العبد إلى ربِّه:

أنزل الله تبارك وتعالى هذا القرآن العظيم، فإذا فقهه الناس وعلموه، أنشأ التقوى في قلوبهم {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 17 – 18].

وقد جعل الله القرآن كتاب هداية {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ومع أن القرآن كتاب هداية للناس جميعاً، إلا أن الذين ينتفعون به هم المتقون دون سواهم. ولولا الكتب المنزلة لما عرف الناس كيف يتقون ربهم، قال تعالى بعد أن بيَّن الأحكام التي تتعلق بالصيام: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].

 فكيف يتقي الناس ما شرع لهم في الصيام، لولا هذا البيان الذي بيّنه الله، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] فالضلال لا يكون حتى يبين الله للعباد ما يتقونه، فإن، قبلوه، وأخذوا به كانوا من المتقين وإلا كانوا من الضالين.

2- عبادة الله تبارك وتعالى بصدق:

عبادة الله – تبارك وتعالى – وحده لا شريك له تغرس التقوى في قلب العبد، سواءً أكانت عبادة مفروضة كالصلاة والصوم والزكاة والحج والدعاء والنذر ونحوها، أو مستحبة كالنوافل من العبادات، وقد دلّ على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].

لقد نادى ربُّ العزةِّ الناس جميعاً آمراً إياهم بعبادته وحده لا شريك له، وهذا الإله الذي أمروا بعبادته هو المستحق للعبادة، لأنه هو الذي خلقنا وخلق آباءنا من قبلنا، ثم بيَّن سبحانه أن غاية العبادة التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، فالعبادة تنشئ التقوى في القلوب.

وكان من العبادات التي تنشئ التقوى في القلوب الصيام، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63] فالذي يمتنع عن الطعام والشراب والنكاح طيلة نهار رمضان في شهر رمضان لا يمنعه إلا أن الله شرع ذلك وفرضه، تنشأ التقوى في قلبه وتقوى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “أمر الله بالصيام لأجل التقوى، وقد قال – -: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة أن، يدع طعامه وشرابه» فإذا لم تحصّل التقوى لم يحصل له مقصود الصوم، فينقص من أجر الصوم بحسب ذلك”.

3 – التفكر في خلق الله تعالى:

التفكر في خلق الله تعالى يغرس التقوى في القلوب، فالله تبارك وتعالى ملأ هذا الكون الذي نعيش فيه بالآيات الدالة عليه سبحانه، فقد جعل الله سبحانه الشمس ضياءً، والقمر نوراً، وقدَّره منازل، لنعلم عدد السنين والحساب، وخلق الله الليل والنهار، وجعلهما يتقارضان، فيطول هذا، وينقص هذا، ثم يقع العكس، وخلق في السماوات والأرض آيات كثيرة عظيمة. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 5 – 6].

4 – التفقه في النصوص المتحدثة عن القبر وعذابه والآخرة وأهوالها.

كيف يثمر الصوم التقوى؟

إذا ثبت أن الصوم إنما شرع من أجل حصول التقوى، فكيف يمكن للمسلم أن يترقى في التقوى من خلال صيام شهر رمضان. إن ثمرة الصوم التي هي التقوى يلاحظها المسلم إذا صام شهره صياما صحيحا، قتظهر ثمرة التقوى على الصائم من نواح متعددة ومن ذلك:
1- يربي في النفس الخشية من الله تعالى في السرّ والعلن: إذ لا رقيب على الصائم إلا ربه، فإذا شعر بالجوع أو بالعطش الشديد، وشمّ رائحة الطعام الشهي، أو ترقرق في ناظريه برودة الماء وعذوبته، وأحجم عن تناول المفطر، بدافع إيمانه، وخشية ربّه، حقق معنى الخوف من الله، وإذا ازينت الشهوات له، وترفع عنها، خوفا من انتهاك حرمة الصوم، فقد استحيا من الله، وراقب ربّه. وإذا استبدت الأهواء بالنفس، كان سريع التذكر، قريب الرجوع بالتوبة الصحيحة، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ، تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف 201/ 7].

2- يكسر حدّة الشهوة، ويخفف من تأثيرها وسلطانها، فيعود إلى الاعتدال وهدوء المزاج، كما

قال صلّى الله عليه وسلّم واصفا الصوم لمن يتعذر عليه الزواج- فيما رواه الجماعة عن ابن مسعود-: «.. ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»، أي بمثابة الخصاء مضعف للشهوة.

وقال أيضا-فيما رواه النسائي عن معاذ-: «الصوم جنّة» أي وقاية من المعاصي.

3 – يستدعي الإحساس المرهف والشفقة والرحمة التي تدعوه إلى البذل والعطاء، فهو عند ما يجوع يتذكر من لا يجد قوتا من البائسين، فيحمله الصيام على مواساتهم، وهذا من أوصاف المؤمنين التي ذكرها الله: {رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح 29/ 48].

4 – فيه تحقيق معنى المساواة بين الأغنياء والفقراء، والأشراف والعامة، في أداء فريضة واحدة، وهذا من فوائد الصيام الاجتماعية، كالحالة السابقة.

5 – يعوّد على النظام في المعيشة، وضبط‍ الإرادة فيما بين فترتي السحور والإفطار في وقت واحد، ويحقق الوفر والاقتصاد إذا التزمت آداب الصيام

6 – يجدد البنية، ويقوي الصحة، ويخلص الجسد من الرواسب والتخمرات الضارة، ويريح الأعضاء، ويقوي الذاكرة إذا حزم الإنسان أمره، وتفرغ لعمله الذهني دون أن يشغل نفسه بتذكر المتع الجسدية[3].


[1]  التقوى تعريفها وفضلها ومحذوراتها وقصص من أحوالها (11).

[2]  مقاصد الرعاية لحقوق الله عز وجل (ص23).

[3]  «التفسير المنير – الزحيلي» (2/ 132).