من المصطلحات التي أنتجتها عصور التقليد في الفقه : مصطلح التلفيق، فهو مصطلح لم يكن معهودًا عند السلف, كما أن الأئمة الأربعة، أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد وأصحابهم لم يدرجوه في مدوناتهم وأمهات كتبهم, وإنما هو من مخترعات الخلف ومحدثاتهم.

 

ولا يبعد أن يكون حدوث البحث في التلفيق في القرن الخامس, أيام اشتد التعصب والتحزب, ودخلت السياسة في التمذهب, واضطر الفقهاء للاعتياش والارتياش إلى التشدد في ذلك والتصلب»([1]) .

ومن المنطقي إذن أن تخلو كتب الأئمة الذين يمنعون ويحرمون التقليد من هذا المصطلح، ككتب الظاهرية.

المفهوم

فالتلفيق أثر من آثار وجوب التقليد، يبحثه الفقهاء الذين قالوا بوجوب تقليد المسلم مذهبا من المذاهب الأربعة أو حتى السبعة بخصم المذهب الظاهري الذي لا يبيح التقليد من المذاهب الثمانية .

فالتقليد هو : تركيب الفقيه المقلِّد حُكْمَ مسألةٍ من مذهبين فأكثر تقليدًا ؛ للعمل أو الإفتاء أو القضاء أو التقنين.

أو هو كما عرفه مجمع الفقه الإسلامي الدولي : ” حقيقة التلفيق في تقليد المذاهب هي أن يأتي المقلد في مسألة واحدة ذات فرعين مترابطين فأكثر بكيفية لا يقول بها مجتهد ممن قلدهم في تلك المسألة.”

فعندما يجد  الفقيه المقلِّد ضيقًا وحرجاً في مذهبه بالنسبة لبعض المسائل والنوازل يضطر إلى التلفيق بين أكثر من مذهب لإيجاد مخرج ؛ طلباً للتيسير على نفسه, أو على مقلدي مذهبه.

وسمي هذا العمل تلفيقاً ؛ لأنه لم يكن على أساس الاستدلال والنظر في أدلة المذاهب, ووجوه الاستدلالات, وقواعد الاستنباط, ومسالك الترجيح ؛ ليتبع ما قوي دليله, ووضح فيه مقصد الشارع.. بل يعمل ذلك بدعوى التقليد لصاحب كل مذهب في الجزئية التي تخصه من الجزئيات التي تكوّن منها الحكم الذي لفّقه..([2])

التلفيق والعوام

العامي المقلِّد لا يوصف بالتلفيق, لأن العامي قد فرض الله عليه سؤال أهل الذكر, واتباعهم فيما يفتونه به على أنه حكم الله فيما سأل عن حكم الله فيه ؛ وذلك لأنه عاجز عن معرفة الحكم بنفسه ؛ لكونه جاهلاً لا علم له ولا بصر بما يدين الله به في المسائل التي لا سبيل إلى معرفة الحكم فيها إلا بالاجتهاد, ولا يمكنه ذلك ؛ فكلفه الله بما في وسعه ومقدوره..

وسبب عدم وصف العامي بالتلفيق؛ أنه ليس له مذهب معين في الحقيقة, ولا علم له بمـذاهب الفقهـاء, فمذهبـه مذهب مفتيه.

فإن كان مفتيه فقيهًا مجتهدًا أو متبعاً – وكان مجال سؤاله مجالاً للاجتهاد – اجتهد له, وأفتاه بما ظهر له قوته بحسب القواعد الأصولية, ومقاصد الشريعة.. وإن كان مفتيه فقيهًا مقلِّدًا أفتاه بالمذهب الذي يلتزمه ويقلده, وإن أعياه ذلك أفتاه بالتلفيق الذي هو عبارة عن التقليد المركب.. ([3])

حقيقته وأنواعه

ولا يكون التلفيق إلا إذا أدى إلى صورة لا يقول بها مجتهد على حدته ، وذلك بأن يلفّق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر, يتولد منها حقيقة مركبة لا يقول بها أحد؛ كمن توضأ, فمسح بعض شعر رأسه مقلدًا للإمام الشافعي, وبعد الوضوء مسّ أجنبية مقلداً الإمام أبا حنيفة ؛ فإن وضوءه على هذه الهيئة حقيقة مركبة, لم يقل بها كلا الإمامين, ونحو ذلك من الصور التي لا تحصى, سواء كانت حقائقها مركبة من قولين أو أكثر.([4])

أنواع التقليد

والتقليد نوعان :

– تقليد بسيط, وهو الذي يُقلِّد المقلِّد فيه فقيهاً واحدًا في حكم المسألة بجميع أجزائه وجزئياته من أركان, وشروط, وموانع..

-وتقليد مركب, وهو الذي يقلد المقلِّد فيه أكثر من فقيه ؛ بأن يقلد فلانًا في جزئية، وآخر في جزئية أخرى, وثالثًا في جزئية ثالثة إلخ.

وعلى هذا، فالفقيه المقلِّد حينما يقوم بعملية التلفيق فإنه : لا يكون قد قلَّد أحدًا من أصحاب المذاهب التي لفق منها, وإنما لعب فيها, فأتى بمذهب جديد ليس مذهباً لأحد منهم.. فالحكم الملفَّق مذهب له هو, وحيث إنه مقلد بنى تلفيقه على التقليد, لا على الاستدلال, فإن عمله لا يكون سديداً.

التلفيق والاجتهاد الجزئي

لقد ترسخ مفهوم التقليد في كتب الأصول والفقه المتأخرة، وأصبحت له أحكامه وفروعه، وأصبح يشكل جزءا من الصورة الذهنيه الفقهية في العصور اللاحقة على نشأته وإلى وقتنا الحاضر، حتى ظنّ البعض أنه لا يجوز للفقيه المستدل أن يأتي بصورة من الاجتهاد لا يقول بها أحد من الفقهاء وإلا كان ملفّقًا!

فمثلا عندما بدأ الاجتهاد في مسألة بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي تجريه المصارف الإسلامية، توقف العلماء في مسألة  الآمر ( الواعد ) بإنفاذ وعده، هل يجب عليه إنفاذ وعده بالشراء، أم هو في حل من ذلك، ويكون له الخيار في شراء السلعة من البنك ، والحال أن البنك قد اشتراها بالفعل من صاحبها الأصلي.

رأى الشيخ القرضاوي وقتها وجوب الوفاء بالوعد، وأن ذلك مذهب ابن الإمام مالك، فبرزت الاعتراضات المسكونة بمفهوم التلفيق لتقول : لا يجوز الأخذ بهذه الصورة مع الإلزام؛ لأن صورة المرابحة في أصلها يقول بها الإمام الشافعي، وفي الوقت ذاته لا يقول بالإلزام، والإمام مالك يقول بالإلزام الوعد، لكنه لا يقول بجواز صورة المرابحة، فمؤدى الجمع بين الصورتين في مسألة واحدة: التلفيق الممنوع!
هنا ردَّ الشيخ القرضاوي على هذه الاعتراضات بأنه ليس مقلِّدًا ألزم نفسه بتقليد الشافعي، ثم التقط الإلزام من المالكية لتحسين المنتج النهائي للمرابحة، ولكنه مجتهد، رأى الدليل مع الشافعي في جواز المرابحة، ورأى الدليل مع المالكية في الإلزام بالوعد، وهذا هو الفرق بين التلفيق والاجتهاد؛ ولهذا كان النقد المقبول في هذه المسألة هو النقد الموجه إلى أدلة الإلزام بالوعد في عقد المرابحة.

وعلى هذا جاء في قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي :

حقيقة التلفيق في تقليد المذاهب هي أن يأتي المقلد في مسألة واحدة ذات فرعين مترابطين فأكثر بكيفية لا يقول بها مجتهد ممن قلدهم في تلك المسألة.

يكون التلفيق ممنوعاً في الأحوال التالية:

أ-إذا أدى إلى الأخذ بالرخص لمجرد الهوى، أو الإخلال بأحد الضوابط المبينة في مسألة الأخذ بالرخص.

ب – إذا أدى إلى نقض حكم القضاء.

ج –إذا أدى إلى نقض ما عُمل به تقليداً في واقعة واحدة.

د –إذا أدى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه.

هـ –إذا أدى إلى حالة مركّبة لا يقرها أحد من المجتهدين.([5])


([1]) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، الباني، ص187

([2])سلسلة أبحاث ودراسات أصولية حول التلفيق، الدكتور / جبريل بن المهدي بن علي ميغا

([3])سلسلة أبحاث ودراسات أصولية حول التلفيق، الدكتور / جبريل بن المهدي بن علي ميغا

([4]) مجموعة بحوث في التلفيق مقدمة إلى مجمع الفقه الإسلامي الدولي في الدورة الثامنة.

([5]) ينظر قرار رقم: 70 (1/ 8)