دائمًا ما أجد أن هناك صراعات لا تنتهي بين التيارات الإسلامية على طول العالم الإسلامي وعرضه. هذه الصراعات تستنزف طاقة الأمة، وأضرارها كثيرة ومتشعبة.

وهذه الصراعات أكثر ما يستفيد منها الأعداء المتربصون بنا، والذين كفيناهم مؤنة محاربتهم لنا؛ باشتعال المعارك الداخلية بيننا.

وقد عنت لي فكرة أحببت أن أطرحها، وأن يدور حولها النقاش. فخروجًا من هذه الصراعات، أو محاولة لتقليلها والحد منها رأيت أن يقوم المسؤولون في هذه الحركات والجماعات والتيارات بعملية (تهجير) ممنهج لبعض أتباعهم المخلصين إلى بلدان غير إسلامية للقيام بالدعوة فيها إلى الإسلام.

والأمر لا يتوقف عند التهجير، ولكن يتعداه إلى التوطين والتجنيس في هذه البلدان.

وما نعلمه أن التهجير يكون قسريًّا، مثلما حدث مع المسلمين على يد ستالين بتهجيرهم إلى سيبيريا تلك البلاد الجليدية المتجمدة، ولكن (التهجير) الذي أقصده هو تهجير طوعي، لفئة مختارة ومنتقاة بعناية، ولها شروط خاصة، وإمكانات ومواهب ومهارات متعددة. وإن أحببنا أن نسميه هجرة؛ حتى ينتفي من أذهاننا الجبر والإكراه، فلا مانع من أن نسميها (الهجرة الرسالية).

وهي هجرة ليست لطلب الرزق، والتوسعة على النفس بالمال وغيره، وإن كان لا مانع من وجود هذه النية؛ لأن النفس الإنسانية لا تنفك عن طلب الراحة في الدنيا.

ولكنها هجرة ذات رسالة واضحة المعالم والأبعاد في أذهان وعقول أصحابها، لذلك أسميتها: (تهجير رسالي).

هذه الرسالة لا يغفل عنها الذين تم اختيارهم لهذه المهمة، هي الدعوة إلى الله بتعبيد الخلق لله، وفتح بلدان جديدة بالدعوة.

وهذه ليست فكرة جديدة، بل إنها قديمة، ولكني رأيت التذكير بها لحاجتنا إليها.

فالعرب هاجروا إلى بلدان بعيدة عن أوطانهم، وفتحوها بالدعوة، وتجلى ذلك في بلدان جنوب شرق آسيا؛ فإندونيسيا وماليزيا انتشر فيها الإسلام عن طريق التجار العرب.

وكذا في إفريقيا، وخصوصًا على السواحل، مثلما وصلوا بإسلامهم إلى جزر القمر وغيرها من جزائر المحيط الهندي.

ومعظم هؤلاء العرب من اليمن وعمان، الذين تركوا أوطانهم سعيًا للرزق وتبليغًا لرسالة الإسلام.

بحار ومحيطات بينهم وبين أوطانهم لم تمنعهم من المغامرة والهجرة والضرب في الأرض.

والأتراك هاجروا من أرضهم في قلب آسيا إلى بلدان جديدة في آسيا الصغرى والأناضول، وأسسوا دولة لهم، بل كانت إمبراطورية عظيمة عاشت مئات السنين.

هذه الإمبراطورية تمددت في أوروبا، تلك القارة العجوز، والتي كانت قبل فترة من الزمن ليست بعيدة تجيش الجيوش والحملات الواحدة تلو الأخرى لاحتلال بلاد المشرق العربي، وفي القلب منه القدس.

هذه القارة تنهزم أمام القادمين من أواسط آسيا.

وعندما ضاقت أوروبا بأبنائها وصراعاتهم انتقل المغامرون إلى الأرض الجديدة في الأمريكتين، وأنشؤوا حضارتهم بعد اجتثاث حضارة من سبقهم من سكان تلك الأرض الجديدة.

ومن يتصور أن هؤلاء المطاريد والمغامرين والمجرمين وغيرهم سوف تكون لهم حضارة تقهر العالم بسلطانها.

والهجرة التي أنادي بها ليست للبلاد الغنية، أو ذات الحضارة الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، ولكني اخترت البلدان الإفريقية؛ إذ ما زالت هذه القارة أرضًا بكرًا، ولا زالت خيراتها متوافرة، هذا إلى جانب أن الوثنية منتشرة فيها.

والقارة الإفريقية ما زالت مطمعًا للغرب، ولا زلنا نشاهد الإرساليات التنصيرية تغزو هذه القارة السمراء.

قد تكون هذه الإرساليات ظاهرة واضحة في بعض الأحيان، وقد تكون مستترة تحت مسميات الإغاثة… إلخ.

فما الذي يدعو المبشر الداعية الغربي صاحب العيون الزرقاء والشعر الأصفر والبشرة البيضاء أن يترك بلاده الغنية المتقدمة ذات الحرارة المناسبة له، وفراشه الوثير، والخدمات المتوفرة، والخليلة والحليلة، لكي يعيش في أدغال إفريقيا ومجاهلها؛ حيث الفقر، وانعدام وسائل المعيشة فضلاً عن وسائل الترفيه.

فهذا المبشِّر الداعية الغربي صاحب دعوة ورسالة يسعى بين العالمين لنشرها، وهو في الأساس غير مأمور بذلك، وله في تبشيره مآرب أخرى يخدم بها بلده، ويمكِّن لها في القارة السمراء.

وهذا المهاجر يجب أن يتصف بصفات أهمها: الإيمان العميق بدعوته ورسالته، إلى جانب أن يكون مغامرًا؛ إذ لو فقد روح المغامرة لما استطاع أن يؤسس حياة جديدة في تلك البلدان الجديدة.

وأن يكون هذا المهاجر صغير السن وفي مقتبل العمر، والأفضل ألا يكون متزوجًا؛ حتى لا ينشغل بأهله وببعده عنهم.

وإن كان متزوجًا حديثًا، فليحمل زوجه معه في رحلته هذه إلى تلك الديار الجديدة.

ولتكن سندًا له في دعوته، وأن تتمتع بروح المغامرة والصبر والجلد، مع الإيمان العميق بتلك الرسالة التي هاجرت من أجلها، وتركت أهلها وأصدقاءها لأجلها.

والأولى ألا يكون متزوجًا؛ حتى يتزوج من بنات تلك البلدان الجديدة؛ فالمصاهرة تنشئ وتقيم له العلاقات مع أهل هذه البلدان، وتيسر له التوطين المنشود.

فالهجرة المقصودة ليست رحلة قصيرة الأمد على أمل الرجوع للوطن الأم، ولكنها رحلة طويلة تؤسس لحياة جديدة، وتمهد الطريق للقادمين الجدد بعد ذلك.

وهذا المهاجر يجب ألا يكون منغلقًا على نفسه وأهله ودوائره الضيقة ومعارفه الأقربين، بل عليه الانفتاح والانخراط في المجتمع الجديد؛ وذلك حتى لا يكون منبوذًا في المجتمع الجديد، أو أن يُنظر إليه نظرة الريبة وعدم الارتياح.

وعندما كان اليهود ينزلون في أي بلد فإنهم يصنعون لأنفسهم (جيتو) ([1]) يعيشون فيه، وينغلقون على أنفسهم، وينظرون للشعوب التي نزلوا في جوارها أنهم ليسوا إلا بقرة حلوب تدر عليهم اللبن؛ فهم يريدون الربح الاقتصادي، وليس وراء ذلك مطلب لهم.

لكن المهاجر الرسالي يعيش في المجتمع، ويشارك الناس آلامهم وآمالهم، محاولاً أن يأخذ بأيديهم في الدين والدنيا.

في الدين بهدايتهم للإسلام، وفي الدنيا بإخراجهم من الفقر والعوز الذي ضرب بأسواره حولهم، وكبلهم قيدهم، وجعلهم يفرون من أوطانهم إلى أوروبا وأمريكا.

ولهذه الهجرة الرسالة فوائد عظيمة؛ فهي هجرة لا تتصادم مع الأنظمة الحاكمة في بلدان المهجر، وتعمل على تقليل الصراع الداخلي بين الإسلاميين، إلى جانب أنها قوة ناعمة للمسلمين وللعرب في بلدان المهجر الرسالي.


([1]) كلمة (جيتو): تُسْتخدم بشكلٍ خاص للإشارة لأحياء اليهود في أوروبا.