نجحت البنوك الإسلامية في تقديم منتجات مالية إسلامية، من شأنها أن توفر للعملاء البضائع والماكينات والسلع عن طريق المرابحة والمشاركة والإجارة، لكن ليس كل الناس يحتاجون إلى المال لشراء هذه الأشياء، فهناك قطاع من الناس يحتاج إلى المال ليشتري به ما يستهلكه يوميا من غذاء ودواء ولباس وشراب وقضاء دين، كما يحتاج إلى النقد السائل يدفعه أجورا لخدمات يريد الحصول عليها من مهنيين وحرفيين ونحو ذلك.

بل حتى الشركات والمصانع تحتاج إلى ما يعرف برأس المال العامل، وهي النثريات التي تستهلك في خدمة المشروع من مصروفات وأجور.

التورق المصرفي =90% من جملة العقود المصرفية

وعلى الرغم من تعدد المنتجات المالية التي تقدمها البنوك الإسلامية في هذا الجانب إلا إننا نجد تراجعا ملحوظا في حجمها، فمن المنتجات التي يقدمها البنك في هذا الجانب (الشركة، والمضاربة، والسلم، والاستصناع، والتورق)

فقد انحسر التمويل النقدي في معظم البنوك الإسلامية عن عقد واحد (التورق المصرفي المنظم)،  فقد بلغ حجم تمويله ما يقارب ال90% من حجم تمويلات بقية العقود الأخرى؟

التورق المصرفي أو المرابحة البنكية

والبنوك الإسلامية التي لم تعتمد منتج (التورق المصرفي المنظم) تحل المرابحة البنكية بها محل التورق المصرفي المنظم، صحيح أن المرابحة البنكية ليست عقدًا من عقود التمويل النقدي، ولكنها عقد تمويل بالسلع والعروض، إلا أن التجربة أثبتت أن كثيرا ممن يلجأون إلى المرابحة البنكية، إنما يتخلصون من السلع بعد شرائها ببيعها؛ لأنهم يريدون النقد لا السلع، والدليل على ذلك انحسار حجم المرابحة البنكية لصالح التورق، فما من بنك أدخل في منتجاته التورق المصرفي المنظم، إلا وانحسرت لصالحه المرابحة البنكية.

أسباب تفوق التورق المصرفي المنظم

وعلى هذا ، فلا يعود زيادة حجم انتشار التورق المصرفي المنظم إلى كونه يوفر للعميل الحصول على ( النقد)؛ إذ إن الشريعة الإسلامية أباحت عددًا من العقود التي توفر النقد لطالبيه، مثل ( الشركة والمضاربة، والسلم، والاستصناع).

1- تدني المخاطر:  لكن السبب الرئيس في تراجع هذه العقود، وتفوق (التورق المصرفي المنظم) عليها مصرفيًّا، هو تفضيل المصارف الإسلامية إياه لتدني مخاطره الاقتصادية إذا ما قورن ببقية عقود التمويل النقدي، ف( الشركة والمضاربة، والسلم، والاستصناع) عقود عالية المخاطر بالنسبة للمصارف الإسلامية، ولذلك فهي تفضل عليها التورق المصرفي المنظم، صاحب المخاطر الاقتصادية المتدنية.

2- المرونة التمويلية :وثمة سبب آخر لا يقل في تسببه لهذه الظاهرة عن السبب الأول، وهو أن  هذه العقود النمطية (الشركة والمضاربة، والسلم، والاستصناع) ليس بإمكانها توفير النقد لكل الأغراض.

فالمضاربة والمشاركة يمثلان تمويلا نقديا مباشرا من البنك للعميل، ينتفع به العميل في إقامة المشروعات الجديدة، وإنقاذ وإتمام المشروعات القائمة إلا إنه لن يسعف العميل في تغطية كافة ما يحتاج إليه من نفقات وأجور وسداد مديونيات قائمة.

فمثلا، ما يحتاج إليه العميل من نقود لمواجهة حاجاته المعيشية له ولأفراد أسرته من طعام وشراب ولباس ودواء ومسكن يتعذر على هذه العقود النمطية أن توفر لهم ما يحتاجون إليه من نقود.

3- بين التمويل والاقتصاد : والسبب في ذلك  أن الإسلام إذ أباح هذه العقود، فقد ربطها بالاقتصاد الحقيقي، وتقاصر هذه العقود عن استيعاب جميع أغراض التمويل النقدي من حيث الصياغة الفقهية جاء للمحافظة على هذا الربط بين التمويل والاقتصاد الحقيقي، فالتمويل النقدي، متى كان مرادا به الاستثمار، فيسعه أكثر من عقد شرعي مربوط بنوع استثماره مباشرة، ومتى كان مرادا به قضاء الحاجات الضرورية، وجدناه معقدا، ما يعني أن الشريعة تمنع تمويله استثماريا.

ومتى كان مرادا به الاستهلاك مع وجود موارد مادية قريبة قادمة كالراتب وغيره، أمكن لعقد المرابحة أن تقوم بتلبيته.

ولو أراد الإسلام فتح الباب للتمويلات النقدية دون ربطها بالاقتصاد الحقيقي لأباح (الربا)؛ فالربا هو أيسر الطرق وأقلها كلفة للحصول على النقد مقابل زيادة في الذمة؛ لأنه لا يخلق وسطاء طفيليين، فالعلاقة فيه تنحصر بين الدائن والمدين، أي بين آكل الربا ومؤكله. لكن كفاءته هذه، كفاءة وقتية، وإلا فإن الربا يؤدي في النهاية إلى كوارث مالية ، سببها فصل الاقتصاد عن التمويل.

4- التمويل الاستثماري وحده لا يكفي : والحل الذي يقدمه الإسلام ليس في تغول التورق المصرفي المنظم، ليصبح هو البديل عن الربا، فيصبح أداة التمويل النقدي أيًّا كان الغرض من النقد، ولكن الحل في الاقتصاد الوَقْفي والخيري غير الاستثماري.

وبالنظر إلى تلك الحاجات الشخصية التي لم تتمكن عقود التمويل النقدي النمطية من تمويلها، نستطيع أن نُدرك أن استعصاء تمويلها تمويلا استثماريا مقصود شرعا، فمن احتاج إلى الطعام والشراب واللباس والدواء والمسكن، ولم يكن ينتظر لا حالا ولا مآلا ما يتدبر به ثمن هذه  الأشياء، فهو فقير محتاج، تسعه أموال الزكوات والصدقات، ولا تزيده التمويلات الاستثمارية إلا دينًا فوق دين وهمًّا فوق همّ.