على مدار التاريخ كان تطوير الواقع والارتقاء في معارج الكمال أحد الهموم الأساسية التي تشغل بال الناس، لكن المشكل الذي كان دائماً يربك الإنسان أثناء بحثه في هذا الشأن هو الأسس والمبادئ والأدوات التي يحتاجها في انطلاقه في عملية التغيير، وفي استمراره في تلك العملية؛ وفي اعتقادي أن التقدم الحضاري يقوم على ثلاثة أمور مترابطة ومتكاملة، هي المعرفة، والتربية، والنظم والقوانين، ومن المهم توضيح هذه المسألة من أجل تحسين درجة الوعي بها:

1ـ المعرفة

لدينا الكثير من المعارف، ونحتاج إلى الكثير، لكن التقدم الحضاري يحتاج أكثر ما يحتاج إلى المعارف المتعلقة بالواقع؛ فالناس في حاجة إلى أن يتعرفوا على أنفسهم وما لديهم من نقاط قوة وضعف، وفي حاجة إلى أن يعرفوا ما في واقعهم الشخصي من إمكانات وتحديات وفرص، وهم في حاجة أيضاً إلى أن يتعرفوا على الأسلوب الأمثل الذي ينبغي أن يتّبعوه في تربية أبنائهم، وعلى أسلوب تعاملهم مع بعضهم بعضاً… الناس محتاجون إلى كل ذلك حتى يعيشوا حياتهم بطريقة صحيحة، وهذه المعارف ينبغي أن تكون موثوقة وحديثة، وهاتان الصفتان ضروريّتان للغاية، وذلك بسبب كثرة المعلومات المغشوشة، وكثرة المعلومات التي صارت مادة للمتاجرة بين المستفيدين منها، وحداثة المعلومات ضرورية أيضاً بسبب سرعة التغير الحادث الآن، ومن المعروف عموماً أن الواقع يتغير بسرعة أعلى من سرعة تطور الوعي، ولهذا فإن كثيراً من الناس يعملون وفق معطيات متقادمة بل تكاد تكون منسوخة!

نحن نريد من وراء الحصول على المعلومات شيئاً آخر غير إدارة شؤوننا الشخصية بكفاءة، ألا وهو بلورة منهج ورؤية جديدة للتعامل مع حوادث الحياة، وإذا لم نحصل على هذه الرؤية، فالبديل جاهز، وهو الركون إلى العادات والتقاليد المتوارثة، والاعتماد على المعلومات غير الممحَّصة والخبرات غير الناضجة، وهذا بالضبط هو الذي يجعل حياة كثير من المسلمين مشحونة بالتخبط والارتباك.

2ـ التربية

التربية ذلك الجهد المبرور الذي نبذله في البيوت والمدارس … من أجل تحويل المعارف والمعلومات ذات الطابع العملي إلى (ثقافة)، ونعني بالثقافة هنا مجموعة العقائد والأخلاق والنظم والعادات والتقاليد السائدة في بيئة معينة. إن المربين من خلال جهودهم المتواصلة يصوغون شخصيات من يربّونهم وفق الرؤية الحضارية الجديدة ووفق المعلومات الموثوقة التي تحدثنا عنها، وهذه مهمة جليلة للغاية؛ إذ من غيرها يحدث لدينا ما يشبه الانفصام في الشخصية، وذلك حين يستطيل ويتسع يعرّضنا لمقت الله ـ تعالى ـ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).

الحقيقة أن المجتمع لا يتقدم بالشكل الصحيح إلاّ إذا صارت التربية في البيوت وفق المبادئ والقيم والمعارف التي يتم تلقينها للطلاب في المدارس، فنحن نشيد فيها بقيم العدل، والصدق، والأمانة، والنزاهة، والرحمة، والجدية، والتعاون، والدقة، والوفاء بالوعد … وليس التخلف شيئاً مغايراً لما يعانيه كثير من الناس حين تكون عقائدهم وأقوالهم في واد وسلوكياتهم ومواقفهم في واد آخر!

3ـ النظم والقوانين

لدى كل الأمم دساتير ونظم وقوانين بما يكفي ويزيد، ويتجسد الفارق بين أمة متقدمة وأمة متخلفة على هذا الصعيد في أن القوانين في الأمم المتخلفة تكون نافذة على الضعفاء وعلى أولئك الذين لا يدفعون المال، أما في الأمم المتقدمة، فإن هناك الكثير من الحوافز والضمانات لجعل القوانين سارية على الجميع، وهذا واضح.

إن المعارف والعقائد والرؤى حين تتحول إلى (ثقافة) بفضل (التربية) تصبح حاجة الأمة إلى القوانين محدودة؛ لأن الناس يفعلون الخير، ويقومون بواجباتهم، ويكفون عن الشر بدافع من عقائدهم وأخلاقهم وما نشؤوا عليه، وحين تُطبّق القوانين بشفافية وحزم وعلى كل الناس، فإنها تكون قادرة على توليد ثقافة اجتماعية جيدة وشاملة؛ لأن الناس آنذاك يرون أنه لا بد من التكيف معها بسبب ما فيها من منطقية وعدل، وحين تترسَّخ ثقافةٌ ما فإنها تسهِّل إصدار النظم والقوانين التي تتلاءم معها، وهكذا تنشأ علاقة جدلية جميلة بين الثقافة والقانون.

حين تفشل التربية في جعل الثقافة صدى لعقيدة الأمة وقيمها، فإن الدولة تضبط مسيرة المجتمع عن طريق استخدام القوة المفرطة، وعن طريق تشريع المزيد من النظم والقوانين، وتكون النتيجة مخيبة للآمال، وذلك لأن الأمم تنبعث من قلب المبادئ التي تؤمن بها، وتنتعش بالقيم العظيمة التي تحترمها، أما العقوبات والقوانين فإنها تحمي قيم الأمة ومصالحها، وتظل عاجزة عن بعثها والنهوض بها: (العقوبات لا تنشئ مجتمعاً لكنها تحميه)، وهذا هو السر في أن معظم نصوص الكتاب والسنة  تركز على بناء الإنسان المسلم من الداخل.