صدر حديثا (يوليو 2016) عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب (محمد عابد الجابري:المواءمة بين التراث والحداثة) لمجموعة من المؤلفين، وهو كتاب يحاول قراءة مسارات حياة المفكر المغربي الراحل في بعديها الذاتي والموضوعي من خلال جملة أبحاث تناولت حياته ودراسته وكذا إنتاجه الفكري ومكانة مشروعه وتأثيره في العالم العربي.

وكما تقول مقدمة الكتاب فقد “ساهمت الأعمال الفكرية التي أنتجها محمد عابد الجابري (1936 ـ 2010) في بناء مجموعة من المواقف والقناعات الفكرية والتاريخية في قراءة التراث العربي الإسلامي والتفكير في مشروع النهضة العربية”، كما استطاع أن يبني صرحا فكريا ليس من المجازفة قولنا إنه واحد من بين مجموعة قليلة من الصروح النظرية الفاعلة في قلب الحركة الفكرية العربية المعاصرة.

وقد ناقش كمال عبد اللطيف وحسن بحراوي في الفصل الأول من الكتاب العلامات الكبرى في مسار محمد عابد الجابري الفكري مقدمين بين يدي ذلك عتبة عن تنشئته التعليمية وظروفها السياسية والفكرية بالمغرب وكيف أثَّرت وأثْرت حياته بعد ذلك، كما تعرض الباحثان في هذا الفصل للجبهات الفكرية الأساسية التي خاضها الجابري في بواكير انخراطه في العمل الفكري وكذا معاركة في الجبهة السياسية والدفاع عن الحرية والتحديث السياسي.

أما سؤال النهضة في فكر الجابري فقد ناقشه الباحث محمد نور الدين أفاية وأبرز فيه كيف تكمن إشكالية النهضة وراء أعمال الجابري مبينا أن مقاربته لها ترتبط بالطموح الفكري الذي حركه لإنجاز مشروع نقد العقل العربي الذي دشنه بكتابه (نحن والتراث) حيث صفى فيه حساباته مع القراءات والمحاولات المنهجية التي تعاملت مع التراث العربي الإسلامي.

ويعرج الكاتب على إبراز نظرة الجابري للخطاب المتخيل للنهضة في رأيه حيث ينتقد أي الجابري كل المفكرين الذي قدموا خطابات في شأن النهضة من يمينهم إلى يسارهم؛ فهم في نظره أسرى نظرة سلفية قائمة على (قياس الشاهد على الغائب) وبالتالي تحولت مقارباتهم حسبه إلى:”ممارسات كلامية في مفاهيم مجردة فارغة من كل محتوى واقعي الشيء الذي يجعلها تنقلب إلى مصدر للتضليل والتعتيم”.

ثم إن إشكالية الخطاب العربي المعاصر عند الجابري حسب أفاية إشكالية مزدوجة لا يقوم الصراع فيها بين التجديد والتقليد فقط بل يكمن داخلها الصراع ضد الغرب ومن أجله في آن واحد، ضد عدوانه وتوسعه من جهة ومن أجل قيمه الليبرالية ومظاهر التقدم فيه من جهة ثانية.

وفي فصل ثالث يناقش الباحث محمد مزوز(منزلة العقل النظري في المشروع النقدي للجابري) من خلال قراءة معمقة ورصينة في كتابيه (تكوين العقل العربي) و(بنية العقل العربي) وينبه مزوز في مفتتح بحثه إلى التفريق عند الجابري بين العقل النظري والعقل العملي، حيث يطلق الأخير عنده على ما تناوله في كتابيه الآخرين (العقل السياسي والعقل الأخلاقي)، إلا أن العقل النظري أيضا عند الجابري لا يعني العقل الكانطي الخالص لأنه مقصور على الثقافة العربية الإسلامية ومن المعروف أن الفلسفة تأخذ صفة التجريد والعمومية.

يرى الجابري أن (نقد العقل العربي) أمر لم ينجز في الثقافة العربية الإسلامية، ويقصد بذلك نقد أداة الإنتاج النظري التي صنعتها الثقافة العربية والتي تعبر عن تاريخ العرب وطموحاتهم وعوائقهم، وينطلق الجابري في قياسه لركود الثقافة العربية من مفهوم إدوارد هيريو الذي يقول:”الثقافة هي ما يبقى عندما يتم نسيان كل شيء”، فالجابري يرى أن الثقافة العربية لم ينس منها شيء بل ما تزال بشخوصها حية ومؤثرة.

ولتحليل هذا الزمن الثقافي الراكد يستعين الجابري بشخصيتين تنتميان إلى ثقافتين متباعدتين وإلى مجالين معرفيين متنافرين: جان بياجيه (عالم نفس معاصر) وإبراهيم بن سيار النَّظَّام (متكلم معتزلي) فيستعير من بياجيه مفهوم (اللاشعور المعرفي) ومن النَّظَّام مفهوم (حركة الاعتماد).

ويغوص مزوز في أعماق الكتابين محاولا نبش الجذور التي يقومان عليها، وساعيا لفهم خلفيات ومكونات الأحكام والمواقف التي يتبناها الجابري فيهما.

أما الفصل الرابع فقد اضطلع الباحث محمد العمري فيه بمقاربة (الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية في أعمال الجابري)، ويحاول هذا الفصل تلمس الدور الذي لعبه الأسلوب البلاغي للجابري في ذيوع وانتشار مؤلفاته، وفي التأثير الذي حققته في أجيال عدة في العالم العربي، رغم النقد العنيف الذي وجه لأعماله ومع ذلك ظلت طبعاتها تتجدد كل سنة ويتضاعف الاهتمام بها كل حين.

وقد حاول الباحث في مقدماته أن يعيد تعريف البلاغة كي يخلصها من سيئات التصور السائد لها في المناهج الدراسية العربية، من خلال تشريح مفهومها إلى عدة مفاهيم مثل: المفهوم الإنشائي والمفهوم الوصفي، ليناقش بعد ذلك تقاطع البلاغة والفلسفة في خطاب الجابري وقد ختم مبحثه بكلمة قوية ننقلها هنا، يقول:

“إن البلاغة بمفهومها الحديث الملتبس بالفلسفة، في مواقع مختلفة، ستحس بشيء من الضيم حين تعلم أن فيلسوفا كبيرا وضعها، في بداية مساره، في خانة واحدة مع جيرانها المفتقرين إليها، المستعيرين أدواتها(مثل الفقه وعلم الكلام)، أو مع جذورها التي انفصلت عنها وتميزت بمفارقتها(مثل النحو)…كما تستغرب ما عابه عليها من انطلاقها حرة في مراتع شبابها(السياسة والأخلاق)، لكنها ستكون سعيدة حين تعلم أن سحرها ما انفك يغري فيلسوف المغرب مسايرا لنضجه، واكتمال أدواته، حتى وقع في غرامه، فصار يأتيها خفية من ضرتها، ثم تزوجها وأخلص عشرتها حتى قضى الله أمرا كان مفعولا”

أما الفصل الأخير فقد ناقش فيه الباحث سعيد بشار كتابات الجابري المتعلقة بالقرآن في مبحث بعنوان(الجابري والقرآن الكريم:تجديد داخل التقليد) وهي الكتابات التي أثارت كثيرا من النقد العنيف للكاتب، وقد حاول سعيد بشار أن ينصف الرجل ويضع آراءه حول القرآن وأسباب نزوله ومكيه ومدنيه وترتيب سوره وغيرها من قضايا، أن يضعها في سياقها الطبيعي.

وفي الختام فإن هذا الكتاب يعتبر خلاصة موسعة لفكر الجابري ومواقفه قد تغني المتطلع إلى معرفة أساسيات حياة وإنتاج وآراء المفكر والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري، وهي خلاصة يميزها أنها صادرة من باحثين ينتمون إلى ذات السياق الاجتماعي والفضاء الوطني الذي نشأ فيه الجابري وعاش كل مراحل حياته وعطائه.