هل الجزائر مهد البشرية؟ سؤال مثير للدهشة والاستغراب لم يكن أحد ليطرحه على الإطلاق خاصة في ظل سيادة بعض المسلمات الأثرية التي عينت ميلاد البشرية في مناطق معلومة تحيط بها أنهر وحضارات ممتدة عبر التاريخ في سوريا والعراق ومصر وإثيوبيا..لكن الذي حدث في الجزائر خلال الأيام الأخيرة أمر مذهل، من شأنه أن يقلب كل الموازين ويغير جميع الفرضيات العلمية القديمة، والاكتشافات السائدة بأن منطقة شرق أفريقيا هي مهد البشرية الأول.

توصلت حفريات قام بها مجموعة كبيرة من الباحثين وعلماء الآثار من الجزائروأستراليا وإسبانيا وفرنسا إلى العثور على أدوات حجرية وأدوات قطع مصقولة وبقايا عظامحيوانات يعود تاريخها إلى 2.4 مليون سنة.

هذا الاكتشاف المهم قلب رأساً على عقب الاعتقاد العلمي الذي راج لعقود بأن شرقي أفريقيا وحدها هي مهد البشرية،كما خلف تساؤلات بشأن كون الجزائر مهدًا للإنسانية إلى جانب موقع “غونا”في إثيوبيا.

فريق البحث، بإشراف البروفسور الجزائري محمد سحنوني، صرح أنّ الاكتشاف حدث بموقع “عين بوشريط” في منطقة “عين الحنش” بولاية “سطيف” 300 كيلومتر شرقي الجزائر العاصمة.

وقال فريق البحث إنّ عمر الأدوات الحجرية وبقايا عظام الحيوانات المكتشفة يبلغ مليونين وأربعمائة ألف سنة، بحسب دراسة نشرتها مجلة “science” العلمية الأمريكية.

وتتمثل الأدوات في حصى مهيأة وكرويات ونويات ومكاشط وشظايا ذات حواف حادة استخدمت في تقطيع الكتل الحيوانية تشبه الأدوات الحجريةالمكتشفة في موقع “غونا” بإثيوبيا.كما تم اكتشاف هياكلحيوانات منقرضة في المنطقة مثل الفيلة وفرس النهر و وحيد القرن والزرافات.

وتفيد الدراسة بأنّ هذا الموقع يمثل أقدم تواجد بشري في شمال إفريقيا، وثاني أقدم تواجد بشري في العالم بعد موقع “غونا” الإثيوبي (مليونان و600 ألف سنة).

تأريخ جديد

على “تويتر”، غرد وزير الثقافة الجزائري، عز الدين ميهوبي، بقوله: “إنجاز علمي تاريخي حققه فريق بحث جزائري معزز بباحثين من إسبانيا وفرنسا وأستراليا”. وأضاف الوزير”ابتداء من اليوم سيؤرخ التاريخ بـ2.4 مليون سنة للوجود البشري بشمال إفريقيا. وما زال البحث متواصلا”.

وأثار الاكتشاف تساؤلات حول إمكانية أن تكون الجزائر مهداً للإنسانية، بعد موقع “غونا”، أو مع البحوث القادمة تكون هي المهد الأول للإنسانية، وليس الثاني. وهو ما ذهب إليه عبد القادر دراجي، عضو فريق البحث، الذي أكد إنه “ممكن جدا في الأبحاث الجارية والقادمة اكتشاف مستويات أقدم من 2.4 مليون سنة”.

وقال دراجي أنّ “كل الأبحاث حول ما يسمى بالاستقرار الأول للإنسان، الذي كان متمركزاً في إفريقيا الشرقية والجنوبية، جعلت الباحثين يعتقدون أنّ الإنسان عّمّر منطقة شمال إفريقيا في وقت متأخر، أي قبل قرابة 600 أو 700 ألف سنة”. وأضاف: “منذ 30 سنة حاولنا تطبيق مناهج البحث الجديدة في الحفريات المتواصلة، وهو ما قادنا إلى معرفة الجوانب الثقافية والبيئية والنباتية والحيوانية في هذا الموقع”.

وأردف: “استخدمنا المناهج الجيولوجية ومناهج لتدقيق هذه التواريخ الموجودة على مستويين أساسيين في عين بوشريط، وهي 2.4 و1.9 مليون سنة”.

ربع قرن من البحث

وقال الباحث عبد القادر دراجي بأنه “بفضل هذه التواريخ ثبت العكس، بمعنى أنّ منطقة الجزائر وشمال إفريقيا عّمرت في فترة معاصرة لمنطقة غونا، وهو أقدم موقع بحوالي 2.6 مليون سنة”.وأوضح أنّ مشروع البحث حول “أقدم تعمير بشري في شمال إفريقيا بدأ عام 1993، تحت إشراف الجزائري محمد سحنوني، وبمشاركة باحثين وعلماء آثار من فرنسا وإسبانيا وأستراليا ودول أخرى وطلبة جزائريين”.

فيما قالت الدكتورة والباحثة في الآثار، فايزة مرياش، إنّ “الاكتشافات الأخيرة في سطيف تم التوصل إليها قبل أكثر من 3 سنوات، وليس يوم الإعلان عنها عبر نشر الدراسة الخميس الماضي”.

وأوضحت أنّ “هذه الحفرية تعدّ ثمرة عمل امتد لقرابة ربع قرن، لكن النتائج الأولية ظهرت في 2015 بعدما اكتشف قطعاً من هياكل حيوانات كانت تعيش في عين بوشريط”. وأشارت مرياش أنّه “تم العثور في عين بوشريط، عام 2014، على بقايا تمساح وحيوانات عظمية عليها آثار القطع، وشظايا حجرية وأدوات أخرى”.وتعود بقايا العظام لحيوانات مختلفة منها تماسيح وأفيال وزرافات.

وبحسب ما نشرته دورية “science” الشهيرة، فإن الأدوات التي عثر عليها الباحثون في عين بوشريط تشبه تلك التي وجدت في مواقع أثرية بجنوب أفريقيا وتدل على وجود الإنسان الأول بها.

وذكر موقع “Tech Times” أن الاكتشاف يعني أن “مهد الحضارة الإنسانية” قد لا يكون شرق إفريقيا على الإطلاق، كما كان يُعتقد سابقًا. الأدوات التي عثر عليها في الجزائر أنشأت منذ أكثر من 2.4 مليون سنة.

إفريقيا أصل الإنسان الأول

وقال سحنوني إن أسلافنا لم يكتفوا “باستيطان شرق إفريقيا بعد ظهور جنس هومو، بل القارة بكاملها بما فيها مناطقها الشمالية. لذلك يمكن القول إنه لم يعد هناك أي معنى للجدل بشأن مكان (مهد البشرية) لقد تبيّن أن القارة برمتها كانت موطن  الجنس البشري”.

ولم يحدد الخبراء إلى الآن أين رأت البشرية النور أول مرة، لكن ثلاثة مواقع جميعها في إفريقيا تؤكد أفريقية الرجل الأول هي: بارك أواش في إثيوبيا، ومضيق أولدوفاي في جنوب إفريقيا وموقع عين بوشريط في الجزائر مثلما كشفه البحث الأخير. وظهر الإنسان “هومو” أو شبيهه  قبل نحو 2.6-2.4 مليون سنة، لكن لم يتم بعد تحديد موقعه الأول وكيف انتشر في بقاع الأرض.

وخلاصة الكشف الأثري في عين بوشريط أن الحياة البشرية كانت موجودة في شمال أفريقيا قبل ما كان سائدا علميا حتى الآن بأكثر من 600 ألف عام .

وبالتالي، هناك احتمال أن أسلاف الناس كانوا موجودين لأول مرة في شمال أفريقيا، وانتقلوا إلى أوروبا الشرقية حيث استقروا في جميع أنحاء القارة. وتنتمي أدوات العمل المكتشفة إلى ما يسمى ثقافة أولدوفاي، وهي التوجه الشائع في مسألة أصل الشخص.

وفي المجموع، وجد الباحثون 252 أداة قديمة و19 عظمة حيوانات. ومع ذلك، لم يكن في موقع اكتشاف القطع الأثرية، أي عظام لأفراد من فصيلة من البشر. لكن فريق البحث يؤكد أن الأدرات التي عثر عليها هي من صنع واستخدام الإنسان.

وفقا للعالم الجزائري محمد سخنوني، قد يكون للاكتشاف تفسيران. الأول، الأدوات كانت ملك البشر، الذين عثر على آثارهم في شرق أفريقيا. والتفسير الثاني، فإن أدوات العمل الحجرية قد تطورت في أجزاء مختلفة من أفريقيا بشكل مستقل، وفي هذه الحالة ستخضع النظرية حول منطقة “مهد الحضارة الإنسانية” للتغييرات.

الفرنسيون أخفوا نتائج الاكتشافات

وذكر البروفسور سحنوني، أنه بالتعاون مع المركز الوطني لتطوير البحوث بإسبانيا وبالتنسيق مع باحثين من جامعة “ڤريفيث” بأستراليا ومختلف المتاحف الإسبانية وجامعتي سطيف والجزائر والمتحف الوطني للتاريخ بفرنسا، استعملت فرق البحث عديد التقنيات الحديثة منها تقنية المغناطيس القديم وتقنية الرنين المغناطيسي على حبات الكوارتز والكرونولوجيا الحيوية للثدييات الكبيرة وتقنية الترسبات البركانية.

ويرى البروفيسور سحنوني أن موقع “عين بوشريط” من المواقع الأثرية النادرة في إفريقيا كونها تحمل نماذج لبقايا حجرية وعظمية حيوانية أصيلة، وهي النماذج التي سمحت بمعرفة طبيعة معيشة الإنسان الأول وسلوكه البيئي والتكنولوجي.

كما كشف سحنوني أن الجانب الفرنسي قام بمهاجمة نتائج فرق البحث ونفى أن تكون هذه الاكتشافات قديمة بهذا الشكل، وقال إن الاكتشافات التي عثر عليها في المغرب الأقصى مؤخرا أقدم من “عين بوشريط”، بل وأخفى معلومات عن نتائج البحوث الجزائرية. وأرجع سحنوني هذا الموقف الفرنسي إلى ترسخ العقلية الاستعمارية لدى الفرنسيين وأن الجزائريين صغار ولا يمكنهم اكتشاف شيء من هذا القبيل، ولكون الجانب الجزائري أيضا لم يضع التعاون الفرنسي في البحث في الواجهة، وهذا ما أثار حفيظة الفرنسيين فأرادوا كسر الجهود الجزائرية.