مما اشتهر أمره بين رواد علم الفقه الإسلامي ومقاصد الشريعة أن الإمام أبا إسحاق الشاطبي يعد من أبرز المنظرين في علم المقاصد، وتأثيره في هذا الفن يوشك أن يكون موضع الاتفاق بين الدارسين المتخصصين، ولا يمكن عد رجالات هذا الفن إلا ويتربع الشاطبي على عرش المقاصد.

غير أن هذه الحقيقة لا تغض من قيمة إسهامات العالم الفذ إمام الحرمين أبي المعالي الجويني في هذا المجال، فإنه كان من العلماء القلة الذين اكتشفوا هذا العلم، وسبقوا إلى التنظير والبحث في مسالك العلل الشرعية ومقاصدها، ونال إمامة هذا الفن بالجدارة والاكتشاف الأول.

أشاد الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني بمنزلة الجويني في ريادة علم المقاصد ووصفها “بأن العارفين بهذا الشأن يجمعون على أن صاحب الإمامة والريادة الأول في هذا الفن هو إمامنا إمام الحرمين .. وإذا كان لم يفرد مقاصد الشريعة بمؤلف خاص أو شبه خاص كما فعل آخرون قبله وبعده، فإن مؤلفاته جاءت مشحونة بقضايا مقاصد الشريعة، كلياتها وجزئياتها. وجاءت شاهدة على فكر مقاصدي ناضج، ونظر مقاصدي ثاقب. وتلك هي الإمامة التي ائتم به فيها كبار المقاصديين من بعده، فقرروا ما قرره، وأتموا ما بدأه، وساروا على نهجه ونسجوا على منواله”.

نشر الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني دراسة مستقلة قديمة عن مظاهر إمامة أبي المعالي عبد الملك الجويني “إمام الحرمين” في علم المقاصد عام 1419هـ – الموافق 1999م، في ندوة الذكرى الألفية لإمام الحرمين الجويني[1]، سطر إسهامات وتأثيرات الجويني التأسيسية في هذا الفن الخاص، بدأ بما تفرد به إمامنا المترجم عن سابقيه حيث كان أمثال القفال والحكيم الترمذي وغيرهما يعتمدون على التعليل المقاصدي بالطابع الجزئي التفصيلي، وتميز الجويني حين “مهد لمرحلة النظر المقاصدي المعمق المعتمد على النهج التركيبي، وعلى الاستقراءات العامة المفضية إلى تقرير الكليات والنظريات”.

وكان من إسهامات تأسيسية لإمام الحرمين في الفكر القاصدي ما يأتي:

أولا – الضروريات والحاجيات

فإن الامام الجويني قسم المصالح الضرورية والحاجية من حيث ما يجوز القياس عليه منها إلى خمسة أقسام:

القسم الأول  – ما يتعلق بالضرورات مثل القصاص فهو معلل بحفظ الدماء المعصومة والزجر عن التهجم عليها.

القسم الثاني – ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة، ومنه الإجارات بين الناس.

القسم الثالث  – ما ليس ضروريا ولا حاجيا حاجة عامة وإنما هو من قبيل التحلي بالمكرمات والتخلي عن نقائضها ومنه الطهارات .

القسم الرابع – وهو ما لا يتعلق بحاجة ولا ضرورة ولكنه دون الثالث بحيث ينحصر في المندوبات. يقول الجويني: “فهو -في الأصل- كالضرب الثالث الذي انتجز الفراغ منه، في أن الغرض المخيل الاستحثاث على مكرمة لم يرد الأمر على التصريح بإيجابها بل ورد الأمر بالندب إليها.. ”

القسم الخامس – هو ما لا يظهر له تعليل واضح ولا مقصد محدد لا من باب الضرورات ولا من باب الحاجات ولا من باب المكرمات، وهذا الصنف نادر جدا في الشريعة، ويبحث ذلك في العبادات البدنية المحضة التي “لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية”. يقول الريسوني شارحا لهذه  الجملة: لا يظهر فيها درء مفسدة ولا جلب مصلحة فإنه سرعان ما نبه على أن هذه العبادات يمكن تعليلها تعليلا إجماليا وهو أنها تمرن العباد على الانقياد لله تعالى وتجديد العهد بذكره ..[2]

ومن خلال هذا التقسيم الخماسي للعلل والمقاصد الشرعية نجد أن إمام الحرمين وسع في هذا التقسيم، ووضع أسس التقسيم الثلاتي للمقاصد الشرعية التي هي الضروريات – والحاجيات  – والتحسينيات.

ثانيا  – الضروريات الخمس

تعد الضروريات الخمس (الدين والنفس والنسل والعقل والمال) أسس الشريعة ومصالحها العليا، وتحددت هذه المصالح واستقرت على هذا النحو من قبل الرواد الأوائل من الفقهاء، وإمام الحرمين كان من أحد السباقين إلى إدراكها وتحديدها، وم إشاراته:

(فالشريعة متضمنها مأمور به ومنهي عنه ومباح.

فأما المأمور به: فمعظمه العبادات فلينظر الناظر فيها، وأما المنهيات فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر ولا يكاد يخفى احتياط كثير من الناس فيها وبالجملة:

الدم معصوم بالقصاص .. والفروج معصومة بالحدود .. والأموال معصومة عن السراق بالقطع ..)[3].

ثالثا – وضع المصطلحات المقاصدية وإغناؤها

اهتم الجويني رحمه الله بالمصطلحات المقاصدية وهذه داخلة ضمن إسهاماته التأسيسية ومن مظاهر ذلك ما يأتي:

أ – استعماله لمصطلحي (الضرورات والحاجات)، وتعليله بالحاجة العامة أو حاجة الجنس في مقابل حاجة الآحاد أو الأفراد.

يقول الريسوني: (ولست أدري هل سبقه سابق إلى تقرير قاعدة “الحاجة تنزل منزلة الضرورة”؟ وعلى كل فهو يقول: “البيع مستنده الضرورة أو الحاجة النازلة منزلة الضرورة”. ويقول:” الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة”)[4]. ”

وإمام الحرمين بهذه العقلية التأسيسية النادرة أوضح الغموض التي تكتنف مصطلح “الحاجة”، حين رأى أن الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة في الترخصات واستباحة المحرمات، قال رحمه الله تعالى: “فإذا تقرر قطعا أن المرعي الحاجة، فالحاجة لفظة مبهمة لا يضبط فيها قول، والمقدار الذي بان أن الضرورة وخوف الروح ليس مشروطا فيما نحن فيه، كما يشترط في تفاصيل الشرع في الآحاد (أي: في حق الأفراد) في إباحة الميتة، وطعام الغير، وليس من الممكن أن نأتي بعبارة عن الحاجة نضبطها ضبط التخصيص التمييز حتى تتميز تميز المسميات والمتلقبات، بذكر أسمائها وألقابها، ولكن أقصى الإمكان في ذلك من البيان تقريب وحسن ترتيب”[5].

وقد اعتبر الأستاذ الريسوني أن هذا البيان ضبط “الحاجة” ضبطا علميا محكما أحسن من الذين جاؤوا بعده كالغزالي والشاطبي رحمهم الله أجمعين.

ب- وذكر ضمن المصطلحات التي اعتنى بها إمام الحرمين الجويني رحمه الله ضمن إسهاماته التأسيسية:

1- مقاصد الشريعة – وعبر عنها بـ: مباغي الشرع ومقاصده، ومثل المعاني، والكليات، والمصالح العامة، والأغراض الدفعية والنفعية[6].

2- الاستصلاح: أكثر استعمال هذا المصطلح وأبرز ترداده ويعني به: “الشريعة مبنية على الاستصلاح”، ورأى الجويني أن هذا الأساس في الشريعة واسع وشامل ومطرد في أحكامها وتفاصيلها إلى درجة أن تفاصيل الاستصلاحات لا تطلع عليها العقول، لذلك رفض الجويني الاسترسال في العمل بالمصلحة المرسلة.

 


[1]  أحمد الريسوني ، إمام الفكر المقاصدي، جامعة قطر، ندوة الذكرى الألفية إمام الحرمين،  في الفترة من 19 – 21 من ذي الحجة 1419هـ – 6-8 أبريل 1999م. صفحة (973).

[2]  أحمد الريسوني ، إمام الفكر المقاصدي، جامعة قطر، ندوة الذكرى الألفية إمام الحرمين،  في الفترة من 19 – 21 من ذي الحجة 1419هـ – 6-8 أبريل 1999م. صفحة (973).

[3]  البرهان (2/179)

[4]  أحمد الريسوني ، إمام الفكر المقاصدي، جامعة قطر، ندوة الذكرى الألفية إمام الحرمين،  ص (975).

[5]  الغياثي (479 – 480).

[6]  إمام الفكر المقاصدي .. (976).