لفقه الواقع الدور الأساس في الاجتهاد الفقهي والإفتاء، فهو يتألف من أمرين: فقه في النص، وفقه في الواقع [1]، فالفقه في النص بمعنى الإحاطة بما فيه من دلالات وإشارات وأحكام فقهية مختلفة، وهذا النص – أو النصوص – ينطلق منه الفقيه في الاستدلال، فلو جهله، أو نظر إليه من زاوية واحدة، أو كان فهمه مبتسرا ضعيفا، فإن أحكامه فاسدة. أما ” فقه في الواقع “، فتعني أن يكون الفقيه على نظر بالواقع المعيش، فلا يكون حبيس الكتب التي ينطلق منها، وإنما ينظر في الوقائع والحياة من حوله.

وقد أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم، حيث نص على أن الحاكم أو المفتي لا ينطلق إلى الحكم إلا بنوعين من الفهم، أحدهما فقه الواقع والفقه فيه، واستنباط علمِ حقيقة، ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله( )، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله[2].

فالمفتي له شروط معروفة في كتب الفقه والأصول، أبرزها أن يكون بالغا عاقلا عدلا ثقة؛ فالفاسق غير مقبول الفتوى في أحكام الدين وإن كان بصيرا بها، ثم يكون عالما بالأحكام الشرعية: القرآن والسنة وأقوال السلف والناسخ والمنسوخ وأحكام القياس وغيرها[3]. ويضيف الإمام ” ابن القيم ” على أن من سمات المفتي بشكل عام: أن تكون لديه نية فإن لم تكن لديه نية، لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور، وأن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، وأن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته، والكفاية وإلا مضغه الناس، وأخيرا معرفة الناس[4].

والمتأمل في السمات السابقة، يجد أنها تصف الفقيه القوي الواعي المتمكن علميا، والذي أيضا يتمتع بقدرات اجتماعية خاصة، بأن يكون على ” معرفة بالناس”، أي يعرف أحوالهم وظروفهم ومعيشتهم.

كما يمتلك الفقيه نظرين: نظر كلي، ونظر جزئي، فالكلي ما يتعلق بالخبرة والحس الواقعي، أما النظر الجزئي فيتعلق بفهم المسألة محل السؤال [5].

فالفقيه / المفتي يتحرك نظره في المسألة بحركة أشبه بالبندول، كلها في دائرة الواقع المعيش، فهو ينظر نظرة كلية، في واقعه، بمعنى أن يكون على دراية بأبعاد المشكلات والأزمات والقضايا الاجتماعية، قبل أن ينظر في المسألة الفرعية فالأولى هي النظرة الكلية للأمور، أما الثانية فهي النظرة الجزئية.

ولو أخذنا مثالا على ذلك، فعند ظهور الأطباق اللاقطة ” الستلايت “، وُجِدَ مِن الفقهاء من يفتي بحرمة اقتناء هذه الأطباق، وحرمة مشاهدتها، أو التعامل معها، أو إنشاء قنوات فيها، لأنها احتوت على مفاسد كثيرة من وجهة نظرهم، فكانت الممانعة التامة أساسا لفتواهم؛ من باب الحرص ودرء المفسدة، خصوصا أن السائلين كانوا يوضحون الآثار السيئة لمثل هذه الأجهزة في انتشارها، دون وجود بديل، فجاءت الفتوى بأنه لا يجوز اقتناؤها ولا الدعاية لها ولا بيعها وشراؤها لأن هذا من التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه[6]. مما أدى إلى فهم البعض – خاصة من أصحاب الأموال وأهل الإعلام والمبادرة – للمسألة على نحو خطأ، فأدى هذا إلى عدم إنشاء قنوات إسلامية ودينية إلا في فترة متأخرة، في الوقت الذي كانت القنوات الحكومية ضعيفة الأداء والمستوى، فظلت ساحة القنوات الفضائية مرتعا للجميع خاصة من ذوي الإسفاف حتى تم اقتحام هذه الساحة من قبل الغيورين، فأنشئت مئات القنوات الإسلامية والوثائقية والعلمية المفيدة للمجتمع، ولم يعد سبة أن يكون لدى المسلم أكثر من جهاز استقبال فضائي، وقد كان الأمر برمته منكرا، وزاحمت القنوات الدينية والعلمية والإخبارية المفيدة قنواتِ الغناء والتدليس والأفلام واللقطات العارية. فالأمر على نحو ما جاء في الفتوى: فالمسألة لا تحرم لذاتها؛ وإنما لما قد يترتب عليهما من مفاسد وفتنة، ويرجع تقدير ما يُؤذن من ذلك ويُمنع، بحسب تحقق المصلحة ودرء المفسدة، إلى صاحب الولاية من سلطان أو والد أو زوج.

وبهذا يظهر عدم توجه التحريم المطلق. وأهل التوقّي والورع يمنعون القنوات لغلبة شرها، ولكونها مشاعة يطلع عليها الجميع [7]، بمعنى أنه في فتوى القنوات الفضائية، يحرّم النظر إلى قنوات الغناء والإسفاف، ولابد من تنبيه الأهل والأولاد على ذلك، ولا بأس من متابعة القنوات المفيدة، وتتم الدعوة إلى ذوي الاختصاص في الإعلام الإسلامي إلى اقتحام هذا المجال لعظم انتشاره وآثاره.

والأمر نفسه يتعلق، بإصدار فتاوى أو بإخراج فتاوى ليس عصرنا محلها، ولا توَجَّه إلى عامة الناس، فتحدث بلبلة كبيرة، منها على سبيل المثال فتوى إرضاع الكبير، على نحو ما اشتهر وانتشر وتلقفته أجهزة الإعلام العلمانية العربية والعالمية، وجعلته سببا في تشويه صورة الإسلام، ولم تكلف الأقلام المسمومة والألسنة المرذولة نفسها عناء البحث في أصل الفتوى وتفاصيلها والحديث المنسوب إلى السيدة عائشة رضي الله عنها، وأن هذا اجتهاد منها، وإنما يكفي أن تفسح المجال لها، لأن هناك أحد المشايخ المنعزلين في كتبه، عن واقع الإسلام والمسلمين والعالم قد أخرج الفتوى من الكتب وأعلنها على الملأ، دون تمحيص أو إدراك لفقه الواقع عامة، والواقع المعاصر خاصة. مع العلم أن المعلن في هذا الأمر أنه: ولا يلزم من ذلك أن يكون رَضَعَ ثديها؛ لأنها لم تكن محرماً له، ولا يجوز أن يمس شيئاً منها ما دام أجنبياً فكيف بالثدي، ولكن تقوم المرأة بوضع الحليب في إناء ثم يشربه على أن يكون خمس رضعات.

وقد اختلف العلماء تبعاً لاختلاف زوجات النبي هل هو عام أو خاص، فذهب البعض إلى أنه عام، وهو قول عائشة رضي الله عنها، وقيل خاص لسالم ولسهلة، وقال به بعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، دون أن يمس ثديها وإنما تضع الحليب في كوب ويشربه، لم ينقل عن أي صحابي إنكاره على أم المؤمنين ما ذهبت إليه في مسألة رضاع الكبير من جهة الشك أو الريبة أو الاتهام، وإنما يروج مثل هذه الشبهة السخيفة أهل البدع الذين امتلأت قلوبهم بغضا لأصحاب رسول الله ، وجرت ألسنتهم بسب الصحابة وأمهات المؤمنين والطعن فيهم[8].وتكون القضية في إخراج فتاوى وقضايا من بطون الكتب، والتحدث بها أمام الناس في أجهزة الإعلام، فينتقل الأمر من خطاب علمي بين العلماء وطلاب العلم إلى خطاب موجه للعامة، وفيهم من فيهم من ذوي النفوس الضعيفة، والأهواء المقيتة.

وكما نبه ابن القيم، إلى أنه من المستحب على المفتي إذا أفتى بمنع شيء وجعله في باب المحظور، أن يشير إلى باب المباح، وهذا سمة العالم الطيب الناصح، ومثل الطبيب الذي يمنع أسباب الداء، ويشخص الدواء، حيث يحمي العليل عما يضره ويصف له ما ينفعه[9].

ومن هنا، فإن الفقيه يتعامل مع القضية ببعدين: بعد كلي، يدرس القضية من كافة جوانبها؛ وبعد جزئي يقف عند المسألة بعينها، وأن من يتصدى لهذا النوع من الفقه عليه أن يكون لديه أمران: استعداد فطري لهذا الفقه وعلومه؛ وعيش الواقع بكل شؤونه وقضاياه في الوطن والأمة، ومطالعة العلوم المختلفة المرتبطة به مثل علوم الاجتماع والإنسان المعاصرة، واستغراق فترة من الزمن، من أجل تراكم الخبرة والعلم في هذه العلوم[10]، وبالتالي، فمن غير المفيد أن يتصدى للخطاب الفقهي والفتوى من يفتقر لهذه الموهبة والاستعداد الفطري، ولا يعلم عن العلوم المعاصرة شيئا، ولا عن أحوال الناس ولا قضاياهم، ناهيك عن قضايا الأمة والوطن، فساعتها سيكون خطابه المعد للخاصة، مثيرا لبلبلة وفتنة للعامة.


[1] فقه الواقع، من سلسلة ” مفاهيم إفتائية “، موقع دار الإفتاء المصرية، على الرابط http://www.dar-alifta.org/ViewFatawaConcept.aspx?LangID=1&ID=56

[2] إعلام الموقعين عن رب العالمين، تصنيف:أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف بــ  ابن قيم الجوزية، قرأه وعلق عليه: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن الجوزي، الدمام، المملكة العربية السعودية، ط1، 1423هـ، ج2، 165، 166.

[3] الفقيه والمتفقه، للحافظ المؤرخ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، ت 462هـ، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، دار ابن الجوزي، الدمام، السعودية، ط1، 1417هـ، 1996م، مجلد 2، ص330.

[4] إعلام الموقعين، ج6، ص105، 106.

[5] فقه الواقع، دار الإفتاء المصرية.

[6] الشيخ محمد بن عثيمين، في الرد على حكم تركيب الدش في البيوت وما فيه من قنوات ماجنة، على الرابط http://islamweb.org/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=20530

[7] حكم تركيب الدش لمتابعة القنوات الجائزة، لفضيلة الشيخ: سليمان بن عبدالله الماجد، على موقعه الشخصي http://www.salmajed.com/، ورابط الفتوى:

http://www.salmajed.com/fatwa/findnum.php?arno=15233

[8] مسألة إرضاع الكبير ورأي أم المؤمنين عائشة فيها( أحكام الرضاع )، مركز الفتوى، موقع إسلام ويب islamweb.net، رقم الفتوى 200111  على الرابط

http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=200111

[9] إعلام الموقعين، ج6، ص46.

[10] فقه الواقع، موقع دار الإفتاء المصرية.