سأكون صادقا و أنا أكتب هذه الكلمات التي هاج بها الخاطر و أنا في رحلة الحج 2016 الرّحلة التي يخفق لها قلب الإنسان المسلم والتي لا يهنأ قلبه إلاّ وهو مؤدّي للركن الخامس من أركان الإسلام، حتى و إن لم يدرك أبعادها النّفسية والأخلاقية، ولم يعرف مضامين شعائرها إلا أَنّ تكليفا شَرعيا، قد أقامه وجعله كما نقول في اللّهجة الجزائرية “يغسل عظامه” هذا على الأقل لدى جمهور المسلمين.

أما تجربتي الشَّخصية في الحج، وهي وإن جاءت في ظرف علمي يتعلق بمشاركتي في إحدى المؤتمرات العلمية، إلاّ أنّها كانت رحلة تأملية حول رحلة الإنسان أو سفره نحو البقاع المقدَّسة، التي لم أرى فيها، إلا رحلة من أجل صفاء قلب الإنسان، ومن أجل أن يعيش الإنسان معنى الإسلام في شعائر جمعت في رموزها “خلاصة الأديان”.

الحج قَصْدُ نحو بيت الله الحرام، طواف حول البيْت، سعيُ بأشواط، اعترافُ أمام الله بالذّنب ورجاء في المغفرة. التقاء بأجناس كثيرة جاءت كلها تُرَدّدُ نفس الصيغة “لبَّيك اللهم لبَّيك“. حاملة في أشواقها تلك النّظرة إلى الكعبة الشريفة التي تصاحبها دمعة، ودعاء، واستجماع لكل قوة في الإنسان ،كي يدعو ويبتهل ويناجي، لأنه يعلم أنّه أمام مكان قالوا له عنه، أو قرأ عنه، أن الدُّعاء مستجاب من أول نظرة إليه، فكيف بأن يكون من المصلين في صحنه، أو من الطائفين حوله، ولسان حاله يلهج : سأطرح حاجاتي كُلُّها هنا، سأبكي هنا، لأنني لا أريد أن أرجع إلى بلدي و أنا بنفس القلب الذي جئت به.

في الطائرة من الجزائر إلى قطر

حملت أغراضي سلَّمت على عائلتي، قبّلت أولادي تقبيلا حارا، بكت ابنتي الكبرى “ألطاف”، قالت ” بابا” سأشتاق إليك، قلت لها لا تبكي أنا ذاهب إنشاء الله إلى الحج، فقالت لها أمها.. نحن من نبكي على أنفسنا يا ألطاف، أباك ذاهب إلى الحج، ونحن متى يكتب لنا الله أن نذهب. ثم قلت لابنتي : إنشاء الله أُحضر لك لعبة جميلة معي، أطلّت بابتسامة وقالت نعم، وقد كنت من أيام و أنا أقول لها، سأحضر معي لك ماء زمزم، فأضحت تقول كل يوم “بابا” زمزم…زمزم… أعجبتها الكلمة. خرجت من بيتي متوجها إلى الجزائر العاصمة، إلى هنا، لم يكن شعوري قويا فيما يتعلق بالمكان الذي أنا ذاهب إليه، ركبت الطائرة وبقيت أنظر في وجوه الناس، وجزء منهم ذاهب إلى الحج.

كنت في الطريق أقرأ بعض الأحكام الفقهية عن الحج، لكن كنت أقرأ فيها صيغة القانون الآمر، وكانت بحوزتي أيضا، رواية المفكر الجزائري : مالك بن نبي …لبّيك حج الفقراء .. فوجدت فيها قصة تلخّص كيف أن الحج فعلا هو رحلة قلب “إبراهيم نحو الصّفاء “. و أن الحج مدرسة لإعادة بناء الذّات من جديد. وصلنا و الحمد لله إلى قطر…كانت المدة هي ساعة، بين نزولنا وإعادة ركوبنا إلى جدة، هرولت إلى من كان ينادي: جدّة، جدّة، جدة ….فوجدت أن أغلب من هو متجه إلى جدة يرتدي لبالا أبيضا … والصف نحو طائرة جدّة يتحرك، سألت من كان إلى جانبي، أنا أيضا أريد أن ألبس لباس الإحرام، هل تدلني على المكان. فقال لي : أنت حاج….قلت له نعم إنشاء الله، لكنني بداخلي لم استوعب هذه الكلمة ومضمونها…لأنني لم أعشها بعد..

لباس الإحرام…الميقات في الطائرة

لبست لباس الإحرام..فتغير شعوري قليلا..أنا متجرد من اللّباس العادي…ونحن عادة في الفلسفة تَبْرُق في أذهاننا آراء لفلاسفة أفكارهم لها علاقة بما نحن فيه…تذكرت كلاما للفيلسوف جون جاك روسو .. إن الإنسان في حياته يحتاج إلى لحظات يعود فيها إلى الطّبيعة …لكي يتوازن.. فأوَّلتها بلباس الإحرام .. أنا في هذه الحالة أعود فيها إلى طبيعتي…. لا أرتدي مخيطا .. المخيط رمز للثقافة…رمز لفعل الإنسان .. بينما لباس الإحرام هو ملفوفة على بدن الإنسان تذكره بتكوينيته الأصلية .. تُذَكُّره بذاته المنسية…تنقله من عالم التمايزات في الحياة الاجتماعية إلى عالم التماثلات في الطّبيعة.

ركبت الطَّائرة القطرية المتوجهة إلى جدّة، في مكاني الذي جلست فيه، وجدت في مكاني ما يشبه الحقيبة الصغيرة. اعتقدت في البداية أنّها لفافة للغطاء كما هي عادة الطائرات، لكن فيما بعد عرفت أنها شيء آخر ، شيء له علاقة برحلة الحج.

عندما ركبت في مكاني، الذي كان في المنتصف…بقيت أنتظر من يكون إلى جانبي…بدأ الناس يدخلون الطائرة..وكنت في مكاني الرجل الوحيد…على يميني امرأة.. و على يساري امرأتين…أحداهما حملت تلك الحقيبة الصّغيرة وبدأت تفتحها…ولم أعرف ما فيها إلا عندما فَتَحَتْها هي…سجادة صلاة، سبحة، وساعة تسبيح صغيرة……فقلت في نفسي : كل الأشياء هنا تتكلم لغة الحج…وعندما كانت تلك المرأة تفتحها كانت تنظر إلى َّ…وكأنها تقول افتح أنت أيضا حقيبتك…فقلت لها : من أين أنتم ؟ فقالت: نحن من رواندا؟ ذاهبون إلى الحج…فبقيت أتأمل في هذه المجموعة…. الرجال و النّساء.. تعلوهم فرحة وابتهاج…فقالت لي و انت من أين؟ فقلت لها … من الجزائر…قالت: آه ” ألجيريا “…وكانت الغالبية من الحجاج نساء… لاحظت شيئا الأفارقة غالبيتهم شباب…نساء ورجال….والصّينين و الماليزيين جلُّهم كبار السن.

تحركت الطائرة نحو جدّة، كنت أنظر في ركابها…أجناس متنوعة تربطهم رابطة روحية، تعلوهم فرحة روحية، أخرجت كتابي الذي اشتريته من سطيف من مكتبة البصائر، و بدأت أقرأ فيه…ماذا أقول عندما نصل إلى الميقات…و فجأة طلب منا أن نملأ البطاقات التي ندخل بها إلى جدة..ملأت بطاقتي …وبعدها طلبت مني المرأة الرواندية أن أملأ لها بطاقتها..فشرعت أنقل المعلومات..وعندما لاحظت أنّني أُحَدّقُ في الجواز…قالت لي أسمي مدينة..نسبة إلى مدينة رسول الله صلي الله صلى الله عليه وسلّم…ثم ناداهم كما يبدو لي المسؤول… بأنّ ملء الجواز على عاتق الوكالة التي جاءت بهم . فسلمت لها جوازها…

اقتربنا من الميقات…جمعت نفسي استعدادا لبدء النية.. وأنا أخشى أن لا أكون وفق ما هو مطلوب…ربما أنسى شيئا…في كل مرة أُخْرج الكتاب للتأكّد…أعلنت الطائرة أننا وصلنا الميقات… نهض البعض ممن كنت أظنهم مسافرين.. ولبسوا لباس الإحرام… وهكذا أضحت الطائرة كلها وكأنّها أحرمت هي أيضا.

أما أنا فقلت : لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج…بصوت خافت…كانت المرأتين الرُّوانديتين تنظران إليّ…فهمت قصدهما… ماذا تقول كي نقول نحن أيضا…بادرت قائلا : ما هو نوع حجكم ..فقلن : حج تمتع.. قلت لهما… إذن قولا : لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج..فأضحت ترددان معي هذه الكلمة مرات…وقبل أن نبدأ بالتلبية قالتا جازاك الله خيرا… أنت شيخ…أنت معلم … لكنني قطعا لم أقل لهما أنني متفلسف…

بعدها بدأت أصوات متفرّقة وخافتة في الطائرة تقول ” لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد و النّعمة، لك و الملك، لا شريك لك.. كانت هذه المعزوفة في البداية غير منسجمة، ثم ما لبثت أن انتظمت…توقف البعض لكي يسمع الآخرون.. ويبدأ من حيث بدؤوا….ثم مالبثت أن أضحت التّلبية مقطوعة موسيقية منتظمة في أجمل صورتها..الكل يردد التلبية” لبيك اللهم لبيك، لبيك لاشريك لك لبيك ، إن الحمد و النّعمة، لك و الملك، لا شريك لك….الكلُّ يحفظها…الأفارقة، الآسيويين، الأوروبيين، الأمريكين، الروس، العرب….وأضحت زوايا الطائرة كلّها تصدح بهذا النّشيد الإيماني…
يتملكك شعور قد تتبعه دمعه، من هذا الاجتماع، ومن هذه الوحدة، من هذه الرّوحية التي تنشد قصيدا، و تُكَرُّر مقطوعة فنية جليلة….

تواصل النّشيد الإيماني في الطائرة ” لبيك اللهم لبيك … وما قطعه إلا صوت الطّاقم مخبرا الركاب بقرب نزولنا
في جدة، بدأ الجميع يُثَبّتُ لباس الإحرام، ويتفحَّص ما هو معه، أما أنا فبقيت في مكاني أنظر في وجوه الحجاج، اختلاف في الألسنة و الألوان، ووحدة في القصد والإيمان، الكل يبتسم في وجه الكل، لأن بيننا ما هو مشترك، شيء معنوي، وإقبال لآداء ركن ركين تهفو القلوب إلى مكانه.

نزلت الطائرة، في مطار جدة، الكل يتلهف ، فلعل الحرم قريب من هنا، فنراه، أو نطل عليه، تكاد الأرواح تنفصل عن الأجساد، كي تعاين قصدها وتطير نحو بيت الله الحرام، نزلنا إلى المطار، كان هناك حجاج كثيرون، وضعونا في صالات طويلة ننتظر دور المرور على جوازات السفر، و الوقت هو فجرا، انتظرنا طويلا بسبب العدد الهائل من الحجاج، ثم جاء دورنا لختم الجوازات.

الشاب الأمريكي معنا في الصف

وقفنا في صف الجوازات، وهناك عامل ينادي على الناس بالطائرات التي جاؤوا فيها، اصطففنا، وكانت الكلمة التي تتداول بيننا هي : where are you from، من أين أنت ؟ وكانت الإجابات في الصف متنوعة، جزائري، هندي، ماليزي، تركي، أمريكي، مغربي، تونسي، أوغندي… لفت انتباهي شاب أمريكي كان يتكلم إنجليزية لا أسمعها إلا ّ في اللغات الأمريكية التي نسمعها في أشرطتهم العلمية، أو في محاضرات مفكريهم، طويل القامة، أبيض البشرة، لحية قليلة في وجهه، يتكلم مع مسلم هندي بالإنجليزية، وحين أذّن المؤذن لصلاة الفجر، رأيت ذلك الشاب مباشرة إلى مكان و أدّى الصلاة فيه، بلباسه الإحرامي، وكان فيما يبدو من سيمات وجهه التعلق الشّديد بالصلاة والتعبّد لله، وشوق رفيع للحج، بلغ بنا التعب مبلغا شديدا، وحان دوري في الجوازات، مررت وكان أحد المنظمين من المؤتمر ينتظرني، سلّمت عليه، وقال لي هيا معي، كانت حرارة شديدة، سلمته الجوار، وكان حريصا عليه ، أخذني بعدها إلى حافلة كانت تقل الضيوف، و قبل أن أصعد إلى الحافلة، قلت للمنظم، أعطيني جواز سفري، ابتسم وقال لي : لا تقلق …الجواز الآن أصبح أكثر أهمية منك أنت …

انطلقت بنا الحافلة، وكان معي ثلاثة ضيوف آخرين، حياَّ بعضنا بعضا، وعرفت من بعد أنّهم من أوغندا، وصلت مكان الضيافة في منى، كانت كل الأمور على ما يرام، مع تدقيق شديد في المعلومات، وكنت حريصا جدا على سؤال في داخلي لم يتوقف عن الإلحاح : من فضلك أخي متى وكيف يكون الذّهاب إلى الحرم ؟ قال لي أحد المنظمين، تماما ، خذ هذه الورقة وستجد فيها مطلوبك، أخذت هذه الورقة وفيها التَّواقيت الخاصة بالذّهاب إلى الحرم، مكتوبة باللغة العربية والإنجليزية والفرنسية والأردية .

أوصلني أحد الذين يعملون إلى غرفتي، دخلت فوجدت أستاذا من فلسطين، لم أشعر طويلا بالمسافة بيني وبينه، فنحن الجزائريين فلسطين تسكن قلوبنا، ولا نعترف ببقعة في الأرض اسمها إسرائيل، تعارفنا وبكل براءة وأخوة.
كانت الأوقات التي حدّدتها الجهة المنظمة للذهاب إلى الحرم هي : من الساعة الثالثة صباحا إلى الثامنة، ونعود إلى مكان إقامتنا، ومن الساعة الرابعة مساء ونعود في الساعة العاشرة ليلا.ولما كنت وصلت على الساعة العاشرة صباحا، وبسبب أنني لم أنم وتملكني تعب شديد، نمت عميقا. وبعد أن استيقظت كنت أستعد لكي أذهب إلى الحرم على الساعة الرابعة مساء، حان الوقت بعد أن صلينا العصر. توضأت ثم ركبنا الحافلة متجهين إلى الحرم…

سأرى الحرم إذن، سأعتمر إذن، سأسكن في أطهر بقعة في الأرض.. توقفت الحافة التي تقلّنا إلى الحرم، فنزلت أتلفت يمينا وشمالا…كي أرى الحرم و أكحل عيني برؤيته، لكن كان المطلوب منا أن نركب أيضا في حافلة أخرى، فازداد الشوق وتألمت الروح قليلا من هذا التأجيل . حاضر ، ركبنا الحافلة التي كان الحجاج فيها من كل جنس، ألوانا متعددة، لغات متعددة، ألبسة إحرام متعددة، لكنها تنشد طريقا واحدا، وتسلك مسلكا واحدا.. نحو بيت الله الحرام ..

الوصول إلى بيت الله الحرام…الطواف والشعائر

توقفت الحافلة، هرولنا إلى الوجهة التي تسير نحوها جموع الحجيج، وصلنا، وكان صديقي الفلسطيني يقول لي : أنظر هاهي الكعبة….يا للأسف من شدة تحديق نظري لم أشاهدها … فقلت له أين هي ؟ أين هي ؟ قال هناك…نظرت ولأن مباني كانت موجودة كان يظهر منها جزء…..إنها الكعبة الشريفة…أخيرا وصلت…

حدّق نظري في الكعبة الشريفة، دعوت بما فتح الله علي من الدعاء، و بدأت اقترب منها وروحي تهفوا لمعرفة شيء ما، المهم وصلت بين الله الحرام، وشرعت أُدَقّق في المكان الذي أبدأ منه الطّواف، أين الحج الأسْود كي أتخذه البداية، أين الركن اليماني ؟ أين مقام سيّدنا إبراهيم؟ أين أقول ” ربنا آتنا في الدُّنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار .
شرعت في الطّواف وأنا في زحمة مع من يطوف، لا يأبه الإنسان بهذا الزحام، و إنما يبحث عن قلبه وروحه أين هي ضمن هذا المكان المقدّس، هل هي حاضرة أم غائبة؟ حيّة أم ميّتة؟… طواف حول الكعبة، ما معنى هذا الطّواف؟ يجمعنا هنا التوحيد، تركنا اختلافاتنا و ثقافاتنا، وجئنا كي نطوف جميعا حول كعبة … حول التَّوحيد… شريعة الإنسان هنا هي الملَّة الإبراهيمية…

لا مكان للإفتراقات المسمومة… ما كنت أتلذّذ بسماعه في الطواف، هو تلك الابتهالات التي كان يردّدها المسلمون من غير العرب… نطق للأدعية باللغة العربية بلسان أعجمي…. لكن فيها نفس صادق ونور يعلو على الجبين .
أنهينا الطواف، وقفنا عند مقام إبراهيم، صلينا الركعتين و شربنا زمزم، لننطلق بعدها إلى الصفا و المروة، قطع لأشواط، وركض ضمن مكان محدّد، وابتهالات تصدح بها جموع السَّاعين من كل مكان، في كل موقف أتساءل عن هذه الأفعال التعبّدية، و أتأمّل فيها، مستخرجا منها المعاني الجليلة واللّطائف، الحميدة، لماذا هذا؟

وكانت تتدفق في مخيلتي صور هاجر زوجة سيدنا إبراهيم عليه السلام وهي تركض، كنت أقول في نفسي، فعلا إنّ هذا الفعل، أي فعل ترك سيدنا إبراهيم لأهله بواد غير ذي زرع، مع يقينه بالحفظ الإلهي، فعلا إن من خالف هواه دخل التاريخ، وأسّس للتّاريخ… وكنت أتساءل ما علاقتنا نحن كمسلين بهذه الشعائر التي تعد سابقة على الإسلام؟ أدركت حينها كونية الإسلام واستيعابه لما قبله، ضمن شريعته، و أدركت أن المسلم إنسان ممتد في الزَّمان، وموصول بشجرة الأنبياء جميعا.

يوم الحج … يوم عرفة

كان يوم عرفة بالنسبة إليّ يوما ليس كبقية الأيام، لبسنا الإحرام وكنا نستعد لمغادرة مشعر منى، نحو عرفة، بدأت الحافلة تتحرّك والكل يلبي ” لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد و النّعمة لك و الملك لا شريك لك”، و أنا في داخلي أستعظم تلك المكانة الكبرى لسيّدنا إبراهيم عليه السلام، متى كان هذا النّداء، ونحن اليوم نرى بأعيننا جموع الحُجاج تأتي من كل فَجّ عميق، وجزمت قطعا أن آيات الحج في القرآن الكريم، لا يُفقه معناها العميق إلاّ عندما يكون الإنسان في الحج، كنت أنظر من نافذة الحافلة و جموع الحجيج متجهة إلى عرفات، لباس أبيض، و تلبية تمزق سكون الصّباح، موقف مهيب فعلا، و كأن كل هؤلاء موتى يرتدون الأكفان، ولهم ميقات مع الله سبحانه وتعالى، كي يُجدّد لهم الحياة ويَمنحهم فُرْصة أخرى للحياة لكي تكون تلك الحياة الجديدة مرحلة من مراحل الصّفاء مع الله .


توقفت الحافلة ضمن المكان المُخَصَّصِ، التقيت مع أساتذة و شخصيات من كل العالم، الجميع يتحدّث عن عظمة هذا اليوم، عن مغفرة الله للإنسان، عن استعداد قلبه كي يكون قلبا صافيا ويدعو الله بصدق، بقينا بمسجد هناك، كل يذكر الله بطريقته، ثم قطع هذا الجور خطبة الإمام من مسجد نمرة، تابعناها جميعا، وحاولنا أن نتفاعل معها كل برؤيته ومنظوره..مرَّت عرفة بعد الظهر بأرواح خاشعة وباكية، وداعية ومبتهلة، الكل يطرح حاجاته، وفي أذهاننا من الأقارب و الأصدقاء من أوصانا بدعاء له في هذا اليوم المهيب…قطع صوت البكائيات والابتهالات صوت المنظّمين، استعدُّوا كي نَنفر إلى مزدلفة المشعر الحرام، ونبقى هناك.. تألمت الأرواح لهذا، وتمنت لو أن كل الأيام هي يوم عرفة…ربما كان في قلوب الحجيج أنّه يوم يستجاب فيه الدّعاء يقينا…خرجنا من عرفات إلى مزدلفة ملبين مكبرين، و لم نغادر عرفة إلا ّ بعد غروب الشّمس.

وصلنا المشعر الحرام، بقينا فيها ما كتب الله لنا أن نبقى …وبعد منتصف الليل انطلقنا إلى رمي الجمرات، ثم إلى البيت الحرام، لطواف الإفاضة و السعي، ثم الحلق، وبعدها تحللنا التحلل الأصغر ..

“أنت من الجزائر…سفيان فغولي و إسلام سليماني ورياض محرز”

كنت ألتقي مع شباب حجاج، نتبادل التعارف أولا، وعندما يعرفون انّني من الجزائر، يقولون لي ” سفيان فغولي رياض محرز وإسلام سليماني”، كان هذا الثلاثي الذي شرف الجزائر في الملاعب العالمية، قناة حوار بيني وبينهم، يعرفونهم جيّدا، يعتزون بهم كثيرا لأنّهم مسلمون، و لم أكن أعرف أن سجدة سفيان فغولي في كأس العالم 2014 بعد أن سجلنا الهدف بضربة جزاء ضد بلجيكا، قد ألهبت مشاعر المسلمين أكثر، وعاشوا مع فريقنا بقلوبهم.

كان هناك رجل من أوغندا، لما قلت له أنا من الجزائر فبادر قائلا: ” 123 فيفا لالجيري” … ثم أخبرني عن أمه التي عندما شاهدت إسلام سليماني يسجد بعد تسجيله للهدف، تنادي وتقول : هؤلاء أهلنا، علينا أن نشجعهم وعندما أراد هذا الرجل أن يغادر قالي : ستفرح أمي كثيرا عندما أقول لها أنّني التقيت شخصا من الجزائر، من أهلنا، من الذين شرّفوا المسلمين في كأس العالم … قلت سلم عليها كثيرا و شكرا لكم على هذه المشاعر الصّادقة.

الشاب الباكستاني كان أكثر لهفة وحماسا للاَّعبين الجزائريين، التألُّق في كأس العالم بعد الـتأهُّل للدّور الثاني، وإنجاز رياض محرز بتتويجه كأفضل لاعب في الدّوري الإنجليزي، واستنتجت بعدها مدى الترابط بين سجدة سفيان فغولي التي ألهبت مشاعر المسلمين في العالم، و التي بقيت في مخيالهم، إلى أن جاء تتويج رياض محرز، فأضْحت الجزائر هنا، حاضنة للتألق الرياضي…