ابتدأ إبراهيم النزال العقلي مع أبيه وقومه بترتيب أنيق وتسلسل بديع في إيراد الاستدلال  ، ونقض ما عندهم من أباطيل ، بذكاء ملفت معتمد ومعتبر في أساليب المناظرة وأصول الحجاج.

-فعندما غابت الشمس وخيم الظلام ، نظر عليه السلام إلى كوكب يدعون له الألوهية فقال – ذاهبا مذهبهم – : هذا ربي !. والسؤال : كيف لإبراهيم أن يقول مثل هذا الكلام الذي ظاهره الكفر والضلال ؟!!.حاشى لنبي الله.

والجواب : أنه في مقام المناظرة والاحتجاج ، يجوز ظاهراً أن تتبنى ما عند الآخر وأن تجد نقاط التقاء وأرضية مشتركة تنطلق منها لتزعزع أركانه وتبطل دعائمه .

فإبراهيم في بداية المواجهة نحى هذا المنحى ليستميلهم ويستدرجهم لسماع حجته ، ويوهمهم الموافقة عليها ، ثم يكر عليها بالنقض والدحض ، بانياً عقيدته على الحس والعقل والمنطق السليم !!.

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)الأنعام: 76

– والسؤال : ما علاقة الأفول بإبطال أحقيتها بالعبادة ؟!! والجواب : إن الكوكب إذا غاب وأفل فإنه يحول بينه الظهور الحجب أو الأفق .. وهذا ضعف وقصور ، فكيف بمن هذه حاله أن يعبد أو يتخذ إلها من دون الله والحال أن من مخلوقاته من يحجبه عن الظهور ويحول بينه وبين عباده ؟!!

ونقطة ثانية هامة هي أيضا ً: أن من صفات الإله الحق الحضور الدائم ، والقيومية على العباد والخلق ، فإذا غاب لم يعد إلها لأنه لم يعد حاضرا ، فهذا ضعف لا يوصف به الإله الحق .فصاحب الفطرة السوية والعقل الراجح لا يختار ما يغيب ويحتجب عنه .

لذا من صفات الله سبحانه التي يمجد بها ويعرف جل جلاله أنه حي قيوم ، ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ..) البقرة : 255 .فهو حي لا يموت رقيب قائم على العباد لا يغيب ولا يغفل سبحانه .

فانظر دقة إبراهيم في هذا الاحتجاج ، وعمق ما استدل به !!

123334

– إن تعبير إبراهيم بـ ( لا أحب الآفلين ) لفتة جميلة معبرة : فهو يشير إلى أن العلاقة بالإله الخالق علاقة حب قبل كل شيء ، فالبعض يظن أنه في عبادته يؤدي وظيفة أو التزام فحسب ، متناسياً هذا البعد الروحاني الرقيق . فالله جدير بأعلى مقامات الحب وأسماها لجماله وكماله وجلاله وصفاته ..

والإنسان قد يحب مخلوقا ما حتى يصاب بهوس الخيال وفنون الجنون ، فلا يستطيع مفارقة حبيبه وعشيقه ، ولا يقدر البعد عنه ولا يحتمل غيابه !! . فكيف بمن أحب الذات الإلهية العلية سبحانه ، إنه أحرى بذلك .

فلا يجوز إذا ً للرب الحاضر القريب الرقيب أن يغيب أو يأفل أو يذهل عن محبيه حاشاه سبحانه .

– بعد هذا الاستدلال المفحم ، انتقل إبراهيم عليه السلام إلى درجة أعلى في المناظرة والحجاج ، وفق تسلسل منطقي بديع أنيق ، ففي المرة الأولى ذكر الكوكب مبتدئا معهم من نقطة التقاء كأنه سلم لهم أن تكون ربا وآلهة من دون الله ، ثم تدرج بعد ذلك لذكر القمر البازغ قائلا ( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ )77 .

– والتدرج والترقي واضحان في اختلاف لغته هنا عن سابقتها ، حيث عرّض بضلال قومه وميلهم عن الحق ( لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ) ، كما نص صراحة على أن الهداية الحقيقية هي من الوحي ( لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي ) . وهي دقة في الجدال لا يسلكها إلا الفحول العالمون.

– والذي يظهر من السياق ، أن هذا كان في وسط الشهر العربي ، فمن المفترض أن القمر يكون أكثر نورا ، ويظهر أيضا أنه سهر معهم ليلتهم تلك ليستطيع إبطال حجتهم في غياب القمر لحظة بزوغ الشمس .