في ظروف مثل التي تمر بها مجتمعاتنا أصبحت بديهياتٌ كثيرة، أو ما كنا نظنها بديهيات، محلَّ تساؤل؛ حتى ليشعر المرء بالإرهاق إذا دخل في حوار مع غيره، بسبب غياب أرضية معقولة تصلح أن تكون أساسًا لحوار بنّاء.

ومن هذه البديهيات: أهمية الحرية وضرورتها؛ فهل حقًّا الحرية ضرورة للإنسان؟ وهل فعلاً غيابها يؤدي لكوارث؟ وما مكانتها في بناء المجتمع وتكوين الدولة وقيام الحضارة؟

بدايةً نشير إلى أن الحرية بشكل عام تعني: “حال الكائن الحي الذي لا يخضع لقهر أو غلبة، ويفعل طبقًا لطبيعته وإرادته” (المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ص: 71).

والحرية بهذا المعنى مرادفة لوجود الإنسان ذاته؛ ولذا فقد أمر الإسلام بإعتاق رقبةٍ عوضًا عن القتل الخطأ، فقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا} (النساء: 92). أي أنه جعل تحرير إرادة الإنسان مساويًا لحياته؛ فمن قتل إنسانًا خطأً، كان واجبًا عليه “إحياء” إنسان آخر؛ من خلال تحرير إرادته، وفك أغلال العبودية عنه.

فلم تكن الحرية ترفًا يمكن الاستغناء عنه، بل هي أمر لازم، وضرورة ملحّة؛ لأن الإنسان إذا كان يقيم بناءه المادي بالطعام والشراب والهواء، فإنه لن يستطيع إقامة بنائه الروحي والعقلي والنفسي بغير الحرية.. ولا أدل على ذلك من أن الإسلام أسقط التكاليف عن المكْرَه، أي غير الحر؛ فقد روى ابن ماجه والبيهقي من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ.

المرء بلا حرية لا كبيرَ فرقٍ بينه وبين غيره من المخلوقات، من الحيوان والنبات بل حتى والجماد..!

وإذا كان الإنسان قد وُجد في الحياة لمهمة أسمى من مجرد الأكل والشرب، وهي مهمة العبودية لله سبحانه وعمارة الأرض ورفع راية التوحيد والعدل؛ فإن ذلك لا يمكن أن يتحقق دون الحرية، سواء حرية الداعي نفسه ليمارس دوره ووظيفته، أو حرية المدعو ليكون قادرًا على الاختيار بين الحق والشر، بين النور والظلمة؛ ولذا لم تكن الفتوحات التي قام بها المسلمون، شرقًا وغربًا، بهدف إجبار الناس على قبول الإسلام، إنما كانت لكسر الطواغيت التي تحول دون انتشار الهداية بين الناس، ثم بعد أن أزال المسلمون هذه الديكتاتوريات التي تسلّطت على رقاب العباد وضمائرهم، تركوا الحرية للناس في قبول الإسلام.

وفي هذه النقطة، يكفي أن نذكر أن جيش فتح مصر لم يتعد أربعة آلاف مقاتل، ثم جاءه مدد بأربعة آلاف آخرين، وأربعة أفراد كل واحد منهم بألف، كانوا يواجهون 120 ألفًا. وأن المسلمين ظلوا أقلية عددية في مصر طيلة ما يقرب من قرنين، وكانت اللغة العربية بحكم الاستخدام أسبق في الانتشار من الإسلام.

إن الإسلام قبل أن يوجه الأمر بالشعائر لجوارح الإنسان، خاطب عقله وأمره بالتفكر والتدبر، وخاطب إرادته بالانعتاق من أسْر الأصنام ومن الارتهان للشهوات أو للأحبار والرهبان؛ فلا يتسلط أحد على أحد باسم الدين، ولا تتكبَّل جوارحُ الإنسان لملذات غير مشروعة.. وكلُّ ذلك من لوازم الحرية وتوابعها بالمفهوم الواسع.

أما الحرية وبناء المجتمع وتكوين الدولة وقيام الحضارة، فلا يمكن قيام مجتمع على نحو صحيح دون حرية، وكذا الحال بالنسبة للدول والحضارات.

صحيح أن تاريخنا البشري قد شهد مجتمعات متطورة ماديًّا، ودولاً وحضارات ذات أثر عميق في مسيرة البشرية، رغم أنها لم تقدم النموذج نفسه فيما يخص الحرية؛ مثل الاتحاد السوفيتي الذي سقط عام 1991م.. لكن نشير هنا إلى نقطتين:

الأولى: أننا نتحدث عن الصورة المثلى، وليس عن التجارب المشوهة التي تُبرز جانبًا وتطمس آخر، أو تحقق إنجازًا ماديًّا مقابل إخفاق معنوي، أو تخصم من إنسانية الإنسان في سبيل جانبه الحيواني!

النقطة الثانية: أن غياب الحرية يستتبع بالضرورة أمراضًا أخرى، مثل تقسيم المجتمع إلى طبقات، واستئثار فئة بالمال والسلطة، وغياب الشفافية والمحاسبة، وانتشار الكذب والمداهنة والتزلف.. وهذه الأمراض كفيلة بأن تحيل جسدِ مجتمعٍ ما إلى كومة من تراب، فلا يستطيع أن ينشئ دولة أو يقيم حضارة!

وهنا، نذكر أن التجربة الناصرية في مصر كانت لها إنجازات اجتماعية واقتصادية كبيرة؛ لكن وبسبب غياب الحرية- وقد كان أحد أهداف ثورة 1952: إقامة حياة ديمقراطية سليمة- انتكست التجربة برمتها، ومنيت هزيمة قاسية في 1967م، فضلاً عما لحق بالمجتمع من انهيار أخلاقي واقتصادي واجتماعي، يكفى للإلمام به مراجعة كتاب “باشوات وسوبر باشوات” للدكتور حسين مؤنس (الزهراء للإعلام العربي 1988م).

وإذا كان ابن خلدون قد سجل في مقدمته أن “الظلم مُؤْذِنٌ بخراب العمران”، فإن بوسعنا أن نقول: الحرية تنشئ العمران، وتحيي المجتمعات، وتشيد الحضارات.

لكن لعلنا نلتمس بعض العذر لمن لا يعرفون للحرية قدرها، ويظنون أن الحياة يمكن أن تمضي لو وجد المرء كسرة الخبز وشربة الماء فحسب! فإن هذا الفهم السقيم قد غُرس فيهم طوال عقود بالقهر والكبت وتزييف الوعي.. ولا يمكن تصور أن يبرأوا من هذا الداء بجهد يسير أو بقليل من الحوار والنقاش!

إن استعادةَ الوعي بقيمة الحرية، وتمكينَها من خارطة أولويات الإنسان في عالمنا العربي، لهي مهمة صعبة جدًّا- لكنها ليست بعون الله مستحيلة- إذ يجد الداعون للحرية أنفسَهم أمام حاجزين، حاجزٍ من الظالمين الذي يَحولون دون تبصير الشعوب، وحاجزٍ من شرائح من الشعوب نفسها التي تظن أن الحرية قضية هامشية أو يكن تجاوزها بسبب ما تجره عليهم من سخط الأنظمة!

ولهذا الصنف الأخير نقول: لا يمكن أن يكون الخبز بديلاً عن الحرية، ومن يرضى بهذا البدل فقد لا يجد الخبز أيضًا!.. لا بديل عن الحرية إلا الحرية.. إن شجرة الحرية ليس كثيرًا عليها أن تُروَى بالدماء الزكيَّة.. فالحرية مَقْصِدٌ من مقاصد الإسلام.. وهي أكثر من كونها ضرورة!