شكلت الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م صدمة للشرق الإسلامي، وأخذت أسئلة النهضة تطرح نفسها على مفكريه، وكان السؤال الأكبر لتلك المرحلة هو: لماذا تراجع المسلمون، ولماذا تقدم الغرب؟ وظهرت اجتهادات كثيرة، ومحاولات من المفكرين للإمساك بمفهوم يصلح كرافعة  للنهوض الإسلامي، وكانت الحرية من أكثر لمفاهيم التي أخذت حظها من الاجتهاد والجدل والاختلاف.

ولعل أول ما يثير الانتباه في معالجة مفكري النهضة للحرية، هو أنهم لم يعالجوها من منظور ضيق يقصرها على المجال السياسي فقط، ولكنهم توسعوا في النظر إليها، مستحضرين اجتهادات المتكلمين المسلمين الذين درسوا الحرية باعتبارها حرية الاعتقاد التي كفلها الخالق للإنسان منذ خلق آدم عليه السلام، كذلك توسع المفكرون في الحرية باعتبارها حقا للعقل في الفكر والنظر، لذا كانت معركة الحرية التي خاضها رواد النهضة في العصر الحديث معركة متعددة الأوجه، ومتعددة الساحات، ومتنوعة في أدبياتها.

فقد كان مفهوم الحرية عند رواد النهضة أحد المداخل الكبرى لتجديد الفكر، والنهوض الحضاري، وأحد مفاهيم وآليات بناء المقاومة للتحرر من الاستعمار، وكان من أوائل من تحدثوا عنها رفاعة الطهطاوي، فقد كان رفاعة من أوائل من تلقوا الصدمة الحضارية، فقد ولد في العام الذي رحلت فيه الحملة الفرنسية عن مصر عام 1801م،  ثم رحل إليها لذا جاءت كتاباته محرضة على الحرية، فجعلها أحد أصول الفطرة الإنسانية، ثم تناولها كأحد أركان التمدن، بل هي شعار الأمم المتمدنة وأفاض في تناولها في كتبه المختلفة.

الحرية والشريعة

كان من إبداعات مفكري النهضة أنهم ربطوا مفهوم الحرية بالشريعة، لإعطائه قوة كبيرة، إذ أن الحرية ليست مفهوما يمكن الاستغناء عنه، أو تجاوزه بسهولة، كذلك لحماية المفهوم من غارات فقهاء السلطان والسلطة على الحرية بتبرير الاستبداد، وكان ممن ربط الحرية بالشريعة المصلح الكبير “خير الدين التونسي” الذي لعب دورا مهما في الإصلاح العثماني، وأحد رواد التجربة الدستورية في المشرق العربي، تكلم “خير الدين” عنها في كتابه “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”  الصادر 1867م فبين أهميتها في النهوض، وربطها بمفهوم الشريعة، وكان التونسي سياسيا وإصلاحيا لذا جاء حديثه عن الحرية إيمانا منه بأهميتها وقدرتها على إحداث التغيير المنشود، وهي معان كبير ركزت عليها المدرسة التونسية الإصلاحية بعد ذلك بروادها الكبار، فنجد العلامة الشيخ “الطاهر بن عاشور” في كتابه “مقاصد الشريعة”  جعل الحرية أحد المقاصد الكبرى للشريعة، وكذلك الشيخ محمد الخضر حسين، الذي تولى مشيخة الأزهر، يؤلف كتابا فريدا أسماه “الحرية في الإسلام” ، وكانت اجتهاداتهم المهمة ساعية لبيان أن الحرية أصل كبير في الإسلام، لذا جاءت مقارباتهم لبيان أن الحرية حاضرة في النص القرآني المؤسس للرؤية الإسلامية.

كذلك كتب الفقيه التونسي الإصلاحي “محمد بيرم الخامس” المتوفى (1889م) رسالة نشرت بعنوان”ملاحظات سياسية عن التنظيمات اللازمة للدولة العلية” حيث أكد على أهمية الحرية في عملية الإصلاح، وأن غياب الحرية وفقدان العدل من الأسباب الكبرى لتراجع الدولة العثمانية.

ونشير هنا أنه ففي نهاية القرن التاسع عشر قدمت رؤى لإصلاح الدولة العثمانية، منها رسالة تقدم بها الأمير مصطفى فاضل المتوفى (1875م) وهو ابن إبراهيم باشا بن محمد على باشا، حيث تقدم برسالة إلى السلطان العثماني عبد العزيز عام 1866م نشرت مترجمة تحت عنوان ” أمير إلى سلطان”، حيث رأي فاضل أن غياب الحرية عن الدولة له تداعياته السياسية الوخيمة من جهتين: الأولى، أنه صيّر الناس طائفتين: حكام يظِلمون وليس هناك من يردعهم ومحكومون مظلومون ولا شفيع لهم، والثانية، أنه كرّس الاستبداد الذي لا يضر بالرعية وحدها بل يمتد ضرره إلى رأس الدولة

الرق الروحي

لم يكتف النهضويون بربط الحرية بالشريعة ولكنهم أوجدوا لهم عمقا روحيا وصوفيا وفلسفيا، وجاءت اجتهادات وفلسفة شاعر الهند الكبير محمد إقبال لتتحدث عن أزمة الحرية في واقع المسلمين، خاصة وأن فلسفة الرجل ظهرت في وقت انهارت فيه إمبراطورية المسلمين في الهند، وتلبست المسلمين حالة من الجمود الفكري، وازدياد الضغط الحضاري والثقافي الغربي على الشرق الإسلامي، لذا رأى إقبال أن قضية الحرية تتجاوز قضية الحرية السياسية إلى مجالها الأوسع وهو حرية الإنسان..

كان إقبال يرى أن للعبودية ضحاياها، وهو ما يفرض أن يكون يكون للحرية ضحاياها هي الأخرى، لذا انشغل إقبال بقضية الرق الروحي باعتباره هو المدخل الأساسي لغياب الحرية، ورأى إقبال أن نزول الإنسان على وجه الأرض أسس لحرية الإنسان في التاريخ، فهبوط آدم للأرض هي بداية نشوء الذات الحرة، فهي تجسيد للفعل الإنساني في الاختيار، وتأسيسا على ذلك المفهوم أخذ يخلص إقبال الحرية من حالة الاختطاف التي تعرضت لها على يد “الرئيس والدرويش” اي رجل الدين والسياسي، ومن ثم كانت اجتهادات إقبال في الحرية تصب في عمق المفهوم باعتبار أن تحرير الحرية في أساسها الفلسفي والاعتقادي يكفل بتحقيق الباقي، فتحرير الحرية كانت أحد شواغله الكبرى.

أما المصلح الكبير جمال الدين الأفغاني فكان خطيب الحرية وفيلسوفها والمحرض عليها، حيث نقلها من بطون الكتب إلى أعماق الناس ووجدانهم بكلماته ومواقفه، فكان يهتف في مستمعيه: أن العبيد هم الذين يهربون من الحرية فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر، وأن الاستبداد شجرة سامة فإذا ما تركت وترعرعت بثت أوراقها المسمومة التي ستأخذها الرياح لتميت جسد الأمة . لذا حركت كلماته السكون في النفوس التي طال عليها الأمد حتى نسيت معنى الحرية، لكن الأفغاني لم يحولها إلى فلسفة أو نظرية يمكن أن تكون حجر ارتكاز في النهوض الإسلامي؟

أما المجاهد المغربي الكبير الشيخ محمد عبد الكريم الخطابي “لا أرى في هذا الوجود إلا الحرية، وكل ما سواها باطل” ، وأن  “الحرية لا يوجد فيها حل وسط”، وهو ما يعني أن الحرية شرط لتحقيق الإنسانية الكاملة، وكل قيد يحجب الحرية، هو قيد يمنع الإنسانية من التحقق في الوجود.

تعرية الاستبداد

كانت تعرية الاستبداد أهم ما قام به رواد النهضة لتدعيم قيمة الحرية، وللتأكيد على مركزيتها في النهوض العربي والإسلامي، فالاستبداد هو الداء العضال الذي زرع جرثومة التخلف وخلق القابلية للاستعمار، لذا كانت تعرية الاستبداد على مستوى الممارسة والتأويلات التي تستدعيه ميدانا ساهم فيه رواد النهضة الذين رأوا ضرورة تفكيك ارتباط النص الديني بالاستبداد، والتأكيد على أن قيم الدين تناهض الاستبداد وتعاديه، وهنا نجد خطابين قويين طالبا بالحرية من خلال تعرية الاستبداد، الأول:خطاب محمد حسين النائيني المتوفى (1895م) ، وهو من علماء الشيعة البارزين، في كتابه المهم “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” الذي كانت أفكاره وقودا للثورة الدستورية في إيران، فالنائيني وجه انتقاداته الغاضبة للفقهاء الذين صوروا الحرية على أنها مجاهرة بالمنكرات والحرمات، لذا اجتهد في تخليص الحرية من براثن الفقهاء الذين حاولوا طمس معانيها خدمة لأغراض السياسية والسلطات المستبدة، ولتأكيد أن حقيقة الحرية هي التحرر من العبودية، وليس التحرر والتحلل من الأحكام الدينية، فعمل النائيني على إنهاء حالة الرعب التي صورها بعض الفقهاء من المطالبة بالحرية، ورأى أن دور هؤلاء الفقهاء كان هدفه خلق حالة من الاستعداد النفسي لدى الأمة المسلمة لقبول العبودية والاستبداد وغياب الحريات، لذا رأى أن معركة الحرية هي ضد الاستبداد وليس ضد الدين، فالحرية تحرير الأمة من الجائرين..

الثاني: عبد الرحمن الكواكبي الذي مات 1902 ، والذي كانت قضيته التي عاش لها ومات في سبيلها هي المناداة بالحرية ومناهضة الاستبداد، ففي كتابيه “أم القرى” و”طبائع الاستبداد” أعلن الكواكبي في لغة شاعرية كثيفة أن الحق أبو البشر، والحرية أمهم، وأن المستبد هو قاتلهما، وأن الشرق من طول الأمد لفقدانه للحرية نسيها حتى استوحشها، وأن الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية، وأن “الحرية هي شجرة الخلد” وأن الحرية أعز شيء على الإنسان بعد حياته, وأن بفقدانها تفقد الآمال, وتبطل الأعمال, وتموت النفوس, وتتعطل الشرائع, وتختل القوانين، لذا منعت كتبه من التداول في الدولة العثمانية، ومات مسموما لأن الحرية من الكلمات التي يكره سماعها الملوك.

أما الشيخ محمد عبده  فكانت كلمات ومواقفه تطالب بالحرية وتنادي بها فأعلن بوضوح أنه لا صلاح في الاستبداد بالرأي وإن خلصت النيات، لذا كانت معركة الأستاذ الإمام متعددة الجبهات، فعلى مستوى الفكر والاجتهاد طالب بحرية الفكر والرأي وأعلن أن الفكر المقيد بالعادات والتقاليد فكر ميت لا قيمة له ولا رجاء فيه، وعلى المستوى السياسي، أعلن أن الحاكم و إن وجبت طاعته فهو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، و أنه لا يرده عن خطأه ولا يوقف طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول و الفعل.