شاء الله سبحانه أن يقوم الكون على سنة التدافع بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الإيمان والكفر؛ فتكون الحرب بينهم سجالاً، مرة ينتصر أهل الحق والخير والإيمان، ومرة أخرى ينتصر من يقابلهم.

ولو شاء الله لجعل الحياة لا تعرف إلا الخير، وأن تكون ملأى ببشر من نوع الملائكة، أو أشد طاعة! لكن- حينئذ- لم تكن (سُنَّة التمحيص) لتفعل فعلها. فلأن البشر هم نوع من المخلوقات يختلف اختلافًا كليًّا عن الملائكة- الذين هم مجبولون على الطاعة- فمن الطبيعي أن يكون من بين البشر مؤمن وكافر، طائع وعاصٍ.

وقد أراد الله سبحانه أن تُحسَم المعركة بين الحق والباطل، بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، بأيدي الطرفين، دون أن تتدخل السماء بالحسم، كما كان الحال في زمن الأنبياء السابقين؛ وذلك لِحَكمٍ كثيرة منها، أن الأنبياء السابقين كان دعواتهم مخصوصة بأقوامهم، فكان من المنطقي أن تنتهي معركتهم مع أقوامهم في حياتهم؛ فيرى المؤمنون- في الدنيا- جزاء إيمانهم بالنصر والتمكين، ويرى العصاة جزاء كفرهم؛ بالريح العاصف أو الخسف أو الإغراق.

أما بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فلأن شريعته خاتمة، تمتد بامتداد الزمان والمكان، للناس كافة ولختام الساعة؛ فلم يكن من المناسب إهلاك الكافرين واستئصالهم، ولا حسم المعركة بتدخل مباشر من السماء: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد: 4). {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران: 140).

 

الحق منتصر دائمًا.. بخلاف أهله

لكن ما يُحْدِث لَبسًا وإشكالاً هو أن البعض يظن- حينما تكون الجولة للباطل- أن الحق هو ما وقعت عليه الهزيمة، وأن المنهج هو ما أصابه العطن، وأن انتصار الباطل يمنحه مصداقية في نفسه!

ولذا، نرى حالات التشكيك والتشكّك تكثر بعد كل جولة يعلو فيها صوت الباطل!

وهذه مصيبة كبرى؛ من السهل أن ينزلق فيها الشباب خاصة، ومَن اتبعوا الحق دون علم كاف بطبيعته وخصائصه.

كما أن هذه القضية يستخدمها أعداء الحق للتشنيع عليه، وتشويهه؛ قائلين: لو كان ما تدعون إليه حقًّا؛ ما هُزمتم، ولكان النصر حليفكم دائمًا.

وغاب عن هؤلاء وأولئك أن الحق يستمد صِدقيَّته من ذاته، وليس من موقعه الآنِـيِّ، صعودًا أو هبوطًا. وكذا الباطل؛ فهو يظل باطلاً مهما علا صوته، وانتفش ريشه، واحتل مساحة واسعة من الفضاء.

ومن هنا، فما يقع عليه النصر أو الهزيمة هم (أهل الحق) وليس (الحق)؛ فـ (الحق) منتصر دائمًا، وفي علو دائمًا؛ بخلاف أهله، الذين قد ينتصرون أو ينهزمون، بقدر اقترابهم أو ابتعادهم عنه. وأما الباطل فمخذول دائمًا، وفاسد دائمًا؛ وإن تمكّن أهله، وحازوا مواقع متقدمة في معادلات التدافع أو الصراع.

وقد أشار القرآن الكريم لهذا المعنى الدقيق في قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 40).

جاء في “التحرير والتنوير”: “وَأَشْعَرَ قوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} أن أمر المشركين كان بمظنة القوة والشدة؛ لأنهم أصحاب عدد كثير وفيهم أهل الرأي والذكاء، ولكنهم لما شاقوا الله ورسوله خذلهم الله وقلب حالهم من علو إلى سفل. وجملةُ {كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} مُسْتَأْنَفَةٌ، بمنزلة التذييل للكلام؛ لأنه لما أخبر عن كلمة الذين كفروا بأنها صارت سفلى، أفاد أن العَلاءَ انحصر في دين الله وشأنه. فضمير الفَصْلِ مفيدٌ للقصر، ولذلك لم تُعْطَفْ (كلمة الله) على (كلمة الذين كفروا)؛ إذ ليس المقصود إفادةَ جَعْلِ كلمة الله عليا، لِمَا يُشعِر به الجَعْل من إحداث الحالة، بل إِفَادَةَ أن العَلاَءَ ثابتٌ لها ومقصورٌ عليها؛ فكانت الجملة كالتذييل لجعل كلمة الذين كفروا سفلى. ومعنى جَعْلها كذلك: أنه لما تصادمت الكلمتان وتناقضتا، بَطَلَتْ كلمةُ الذين كفروا واستقر ثبوتُ كلمةِ الله”([1]).

أي أن الحقيقة التي تؤكدها الآية وهي أن كلمة الله هي العليا، هذه الحقيقة ليست معطوفةً على جَعْل كلمة الذين كفروا سفلى، وليست أمرًا محدثًا، يمكن أن يتغير؛ بل هي أمر ثابت.

 

نحكم على الحق من ذاته

إن (الحق)- وكذا الباطل- أمرٌ معنوي لا حسِّي، فلا وجود له في الواقع إلا من خلال أناس يتجسَّد من خلالهم؛ وليس من الصحة أن نحكم عليه بالصواب أو الخطأ من خلال من يتجسد فيهم، أو من يزعمون أنهم يطبقونه؛ بل الواجب أن نحكم عليه من ذاته هو، لا من ذات الآخرين؛ حتى لو كان هؤلاء الآخرون هم أتباعَه والساعين لتطبيقه.

لا يمكننا أن نحكم على (الحق) من خلال حال أهله؛ فقد يقتربون منه أو يبتعدون. ولكن يمكن أن نحكم على فكرةٍ ما، بأنها حق أو باطل، من خلال مناقشتها في نفسها، لا في حال أصحابها.

وحينئذ، لا نحكم عليها بالنصر أو الهزيمة، إنما نحكم عليها بالصواب أو الخطأ؛ فالصواب أو الخطأ يتعلق بذات الفكرة، والنصر أو الهزيمة يتعلق بحال أهلها.

لكن العجيب أن قومًا حكموا على فكرة- مثل (الحل الإسلامي)، الذي طالبت به جماهير عريضة خاصة في السنوات الأخيرة- من خلال حال أصحابه، وليس من مناقشة الفكرة في ذاتها.

بل وقع بعض أتباع (الحل الإسلامي) في الفخ نفسه، وتشكّكوا في (المنهج) حينما رأوا الضربات تتوالى وتشتد.

 

مساءلة المنهج ومساءلة أهله

وكان الأجدر بمن يتابعون المشهد ويحللونه أن يُسائِلوا (المنهج) من خلال ذاته هو، لا من شيء خارج عنه؛ فليس شيء يمكن أن يعبر عن (المنهج) إلا (المنهج)، أما البشر- مهما علوا- فتظل هناك مسافة بينهم وبين المنهج؛ ولذا فالصحابة- على فضلهم ومكانتهم- ليست لهم حُجيّة إلا بشروط وفي حدود، فصَّلتها كتب أصول الفقه؛ ويبقى مصدر التشريع محصورًا في (المنهج)، وهو الكتاب والسنة.

فأولاً: علينا أن نسائل المنهج من خلال ذاته هو، وأن نحدد طبيعة المنهج بدقة؛ بحيث ندرك الفرق بين النص- كتابًا وسنة- وبين التفسيرات والشروح والاجتهادات التي أعقبت النص.

وثانيًا: علينا أن نسائل (أهل المنهج): هل كانوا صورة صادقة لـ (المنهج)؟ وهل التزموا بمضامينه وشروطه، أم حادوا؟ وما مدى اقترابهم أو ابتعادهم عنه؟

إذا طرحنا هذين السؤالين على أي واقعة من وقائع تاريخنا أو حاضرنا، فسندرك أن الهزيمة تَنزل على أهل المنهج لا المنهج، وأنها تقع بسبب ابتعادهم عنه لا بتمسكهم به، وأن تمثيلهم للمنهج لم يكن بالصورة المشرفة، وتعبيرهم عنه لم يكن أمينًا بالقدر الكافي.

لقد هُزم المسلمون في محطات من تاريخهم، واجتاحت حملات التتار والصليبيين أراضيهم بهمجية؛ ومع ذلك استطاع المسلمون الانبعاث من جديد، وفي فترة قياسية؛ لأن المنهج ظل ناصعًا يمدهم بأسباب الصمود والبقاء.

وما أكثر من ظنوا الإسلام قد مات مع موت أصحابه؛ إلا أن الإسلام ابتعث له أصحابًا جددًا، أعادوا له سيرته كأنّ هزيمة لم تقع بأهله يومًا ما.

فالهزيمة تقع على (أهل الحق).. أما (الحق) فمنتصر دائمًا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} (الصافات: 171- 173).

ولذا، فليس السؤال: هل يَغلب جند الله، أم يُغلبون؟ وإنما: هل المغلوبون هم جند الله حقًّا؟!

 


([1]) انظر: “التحرير والتنوير”، ابن عاشور، تفسير سورة التوبة، من “المكتبة الإسلامية”، موقع “إسلام ويب”. وأشار ابن عاشور إلى قراءة أخرى قائلاً: “وقرأَ يعقوبُ، وَحْدَهُ، {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} بِنَصْبِ (كَلِمَةَ) عَطْفًا على كلمة الذين كفروا السفلى؛ فتكونُ كلمةُ اللهِ عليا بِجَعْلِ اللهِ وتقديره”.

وقال الشيخ رشيد رضا في “المنار”: “قرأ الجمهور {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} بالرفع؛ لإفادة أنها العليا المرفوعة بذاتها، لا بِجَعْلٍ وَتَصْيِيرٍ، ولا كَسْبٍ وتدبير. وقرأها يعقوب بالنصب؛ والمراد من القراءتين معًا أنها هي العليا بالذات، ثم بما يكون من تأييد الله لأهلها القائمين بحقوقها بجعلهم بها أعلى من غيرهم، كما قال: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران : 139)؛ وبجعلها بهم ظاهرة بالعلم والعمل تعلو كل ما يخالفها عند غيرهم”.