مذ تعاطى العلماء مع قوله صلى الله عليه وسلم :” وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة[1]

وهم مختلفون حول تحديد مفهوم ( البدعة) ولا شك أن تحرير هذا المفهوم من الأهمية بمكان، إذ قد وَصَفَ الحديث كلمة البدعة ب( الضلالة) وهو وصف ليس بالأمر الهين.

ويمكن رد هذا الاختلاف إلى اتجاهين رئيسين :

الاتجاه الأول :هو مذهب الموسعين في مفهوم البدعة، حيث يحملونها على ما أحدث بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم سواء أكان حسنًا أو قبيحًا، ومن أبرز أصحاب هذا الاتجاه (الإمام الشافعي وأصحابه، وابن حزم الظاهري وبعض المالكية كابن العربي، والقرافي، والقاضي عياض وغيرهم).

فهؤلاء يطلقون لفظ البدعة على كل مستحسن في الشرع حدث بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويسمونه: ” بدعه حسنة”  وفي الوقت ذاته يطلقون لفظ البدعة على كل مستقبح في الشرع حدث بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويسمونه” بدعة سيئة”.

فهم يقسمون البدعة إلى : حسنة وسيئة، أو محمودة ومذمومة، وبناءً على هذا التقسيم، فهي تشمل كل محدث بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الخلفاء.

ومن مقولاتهم في هذا :ما جاء عن الشافعي:”البدعة بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم. ([2])

وما جاء عن ابن حزم : “البدعة في الدين كل ما لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويعذر بما قصد إليه ويكون حسناً، وهو ما كان أصله الإباحة كما ورد عن عمر: (نعمت البدعة هذه) وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النصوص، ومنها ما يكون مذمومًا، ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به. ([3])

وما جاء عن ابن حجر في الفتح  تعليقاً على قول عمر: نعمت البدعة هذه، فقال: (البدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق: أنها إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح فهي مستقبحة ،وإلا فهي من قسم المباح).[4] 1هـ.

الاتجاه الثاني:  هو مذهب المضيقين في مفهوم البدعة ، ويرى أن البدعة ،  لفظ خاص بما أحدث على خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أطلقت البدعة في النصوص الشرعية، كان معناها: البدعة المذمومة.

ومن أبرز الممثلين لهذا الاتجاه ( الحافظ ابن رجب الحنبلي، والامام الشاطبي، والإمام الزركشي الشافعي )

ومن مقولاتهم في ذلك : ما جاء عن ابن رجب : (المراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أما ما كان له أصل يدل عليه، فليس بدعة شرعاً وإن كان بدعة لغة). ([5])

أدلة الاتجاه الأول

ومن أدلة الاتجاه الأول : ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال- عندما جمع الناس في صلاة التراويح بجماعة على قارئ واحد-: (نعمت البدعة هذه) وجه الدلالة: أن عمر سمى هذا الفعل بدعة حسنة. فمقتضى ذلك، أن  لفظ البدعة ليس خاصًا بكل مذموم، بل منها ما يكون حسنًا.

وما ذكره ابن قدامة عن الأثرم وهو من أصحاب أحمد بن حنبل المتقدمين: سألت أبا عبدالله، يعني الإمام أحمد عن التعريف بالأمصار، يجتمعون في المساجد يوم عرفه قال: أرجو ألا يكون به بأس؛ قد فعله غير واحد، وروى الأثرم عن الحسن قال: أول من عرّف بالبصرة ابن عباس رحمه الله، وقال الإمام أحمد: أول من فعله ابن عباس وعمرو بن حريث، وقال الحسن وبكر بن ثابت ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفه، وقال أحمد: لا بأس به إنما هو دعاء وذكر! قيل: هل تفعله أنت؟ قال: لا.

وجه الدلالة: أن هذا المحدث لو كان ضلالة لما فعله ابن عباس حبر الأمة وعمر بن حريث، ولما أفتى به أحمد، ولما حضره يحيى بن معين.

مرتكزات ومنطلقات

قال العلامة الشيخ علي محفوظ – رحمه الله- مبينا مرتكزات هذا الاتجاه ومنطلقاته :

“ثم نظروا فرأوا أن هناك استعمالات أخرى للشرع وأهله، تدل على أن البدعة لها معنى آخر يرادف معنى السنة الحادثة خيراً أو

فلهذا جعلوا للفظ البدعة معنى آخر أعم من الأول، وقالوا: إنه مشترك لفظي في لسان الشرع . انظر كتاب «الإبداع في مضار الابتداع، ص119»

أدلة الاتجاه الثاني

أما الاتجاه الثاني، فقد استند إلى عموم قوله صلى الله عليه وسلم : ” وكل بدعة ضلالة” فما من بدعة إلا وهي ضلالة.

كما أن لفظ ( البدعة) إذا أطلق على ألسنة السلف فإنه لا يكون إلا في مورد الذم ، ومن ذلك  ما جاء عن مجاهد قال: دخلت مع ابن عمر مسجدا،ً وقد أذن فيه ونحن نريد أن نصلي فيه، فثوب المؤذن، فقَالَ: «اخْرُجْ بِنَا فَإِنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ» ([6]). فهذا الأثر يفيد أن لفظ البدعة والمبتدع إذا أطلق انصرف إلى المذمومة.

لكن ليس معنى ذلك أنهم يبدعون ويضللون كل أمر حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كل ما هناك أنهم إذا استحسنوا شيئا من الأمور المستحدثة، لا يسمونه بدعة، بل يطلقون عليه أسماء أخرى، مثل ( السنة الحسنة)، ويكون وفق هذه التسمية من وادي المصالح المرسلة، أو ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

هل الخلاف مجرد خلاف لفظي؟

الخلاف بين هذين الاتجاهين، لم يؤد إلى خلاف في الحكم على مفردات الحياة الحادثة بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم.

فالفريقان متفقان على أمر كلي، وهو أن الحادث بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ثبت حسنه شرعًا فهو مقبول وليس بمردود عند الطرفين، لكن يسميه الطرف الأول بدعة حسنة، ويسميه الطرف الثاني سنة حسنة.

فلا يترتب على هذا الاختلاف أثر علمي جوهري، من حيث قبول الأمر الحادث الذي ثبت حسنه في الشرع، أو عدم قبوله.

فالمذهبان متفقان في النتيجة، فأصحاب المذهب الأول لا يستحسنون ما يذمه المذهب الثاني، وبالعكس؛ لأنه عُلم من محصول أدلتهم التي استدلوا عليها أنهم لا يقولون باستحسان أن يخترع في دين الله ما ليس منه، والمحدثات التي قالوا : إنها حسنة هي ما ترجع إلى قاعدة شرعية، فحسنها في الحقيقة إنما هو من جهة الشرع.

فالمحدثات إذا ثبت حسنها في الشرع فهي ليست من البدعة المذمومة، ولكن أصحاب المذهب الأول يسمونها بدعة حسنة، وأصحاب المذهب الثاني يسمونها سنة حسنة.

وممن قرر هذا المعنى، الشيخ علي محفوظ في كتابه المهم، الإبداع في مضار الابتداع، حيث  قال رحمه الله: “والمتأمل في كلام الفريقين يرى أنه نزاع في أمر لفظي كما بسطناه لك، والمسألة هينة واضحة ترجع إلى تسمية وإطلاق لفظ، فهو من الأمور الظنية التي يكتفى فيها بالظاهر. وقد انكشف لك ظهورها. 1هـ([7])

 


[1] رواه مسلم رقم (867) .[1]

[2] كتاب فتح الباري 4/257  .

[3]  الإحكام” (1/ 47،  , انظر د . عزت عطية كتاب ( البدعة ) ص (161 )

 فتح الباري (4/253) [4] –

[5] ابن رجب الحنبلي ( جامع العلوم والحكم ) ص: 291 ، دار الجيل

[6] التثويب هو أن يقول المؤذن بين الأذان والإقامة ( الصلاة، الصلاة )

[7] المرجع السابق ص: 119،  120