الخوف ملازم للإنسان منذ هبوطه للأرض، فهو أحد محفزات حركته في الحياة، فعندما خاف الإنسان من الجوع اتجه إلى الزراعة، ولما خاف المفترسات، لجأ إلى الكهوف وشيد البيوت، لكن الخوف في الحياة المعاصرة أكثر عمقا ووجعا، فهو يُفقد الحياة متعتها، ويُذهب براحة البال والطمأنينة، وهو عقبة كئود، تتزايد مع تغلغل المادية في الحياة، ليعكر صفوها مع تحوله إلى أزمة وجودية، تطرح سؤال المعنى والمصير والغاية، خاصة لحظة وقوف الإنسان على خطوات من الموت، فلا يهدأ ذلك الخوف مع الظلام ولا يذهب مع إشراقة النور.

المادية والوجود

تحولت المادية مع الحداثة لفلسفة ورؤية للكون، فلم ترى وجودا إلا في المادة، فما تدركه الحواس ويمكن قياسه هو الموجود، وبذلك أنكرت الغيب، ويمكن القول أنها كانت أحد التأسيسات للإلحاد الحديث، إذ سعت أن تكون بديلا لكل ما هو غيبي وروحي، كذلك أسست المادية لفصل الخوف عن كل ما هو غيبي، فادعت أنه لا يوجد سبب للخوف من عقوبة بعد الموت لمخالفة الأخلاق أو لارتكاب الآثام والمحرمات، غير أن التضحية بالخوف المستند على الرؤية الدينية والأخلاقية فتح أبوابا للمخاوف العميقة على الإنسان، خاصة بعدما أخذت الدولة منذ القرن السابع عشر الميلادي-حسب فلسفة توماس هوبز – تحل في الطاعة مكان الإله، وتنتزع الخوف لتوظفه في السيطرة على المجتمع.

هناك أربعة مخاوف كبرى ترتبط بحياة الإنسان، هي: الموت، وفقدان المعنى، وفقدان الحرية، والعزلة، رغم أن الخوف الوجودي لا يحظى باهتمام كبير، تشير الاحصاءات أن 10:4%  من البشر يعانون من خوف أو قلق وجودي، ربما لأن سؤاله وإشكالاته قادمة من الفسلفة، ولعل هذا ما يجعل الاهتمام به متواريا على المستوى العام، لكن المسكوت عنه هو أن سؤال الخوف الوجودي يطرح أسئلة تقوض الفكر المادي، فهو يفصح عن حاجات الإنسان الروحية والإيمانية والغيبية التي تنكرها المادية، ومن الأسئلة التي يطرحها: إذا الفناء يحكم حياة الإنسان، فلماذا وُجدت الحياة؟ وما الغاية منها؟ وماذا بعد الموت؟

الحقيقة أن التعامل مع أزمة وجودية، يطرح أسئلة مختلفة، ويستدعي مناهج مغايرة، ولن يفيد الانغماس في المتع الحسية في طمس إلحاح الأسئلة، فالمتعة لا تخلق إجابة، ولكنها مُسكن للأوجاع، كذلك فإن اللجوء إلى أفكار التنمية البشرية ونصائحها لن يجدي نفعا، كما أن الانغماس في العمل الاجتماعي أو الخيري لن يسكت تلك الأسئلة داخل النفس، وهو ما يفرض ضرورة المواجهة مع ذلك الخوف، فالأزمات الوجودية تحول النفس إلى سجن مرعب، فلا يتسطيع الإنسان أن يختلى بنفسه، فيشعر مع تلك الأزمة بالضياع، ويفقد الدافعية للحركة، ويعيش مع اليأس والإحباط والاكتئاب والقلق.

عرف علم النفس ما سمي بـ ” ثاناتوفوبيا  Thanatophobia ”  أو “رهاب الخوف من الموت” وهو شعور مؤلم يتملك الإنسان فيخيفه من الموت، ويحول الحياة إلى جحيم، وربما أصابه بنوبات من الهلع، ولا يوجد طريقة للوقاية من الـ” ثاناتوفوبيا “،  ولكن يمكن التقليل من آثارها، من خلال منهج معرفي وسلوكي قبل أن يكون علاجي ونفسي، إذ تحتاج النفس إلى طمأنينة الإيمان واليقين للتغلب على مشاعر القلق والخوف، في مواجهة الموت.

في المذكرات التي كتبها طبيب الأعصاب الأمريكي ” بول كالانيثي”  Paul Kalanithi  بعنوان “عندما تتحول الأنفاس إلى هواء”   When Breath Becomes Air  والذي أصيب بالسرطان بعد حصوله على الدكتوراه وتوفي وهو في السابعة والثلاثين من عمره، حكاية مشبعة بالألم مع لحظة اقتراب الموت، وعجز الطب عن مواجهته، في تلك اللحظات،  سجل ” كالانيثي” مشاعره ومخاوفه وبحثه عن ماهية الحياة وحقيقة الموت، والأفكار التي تلح على الإنسان مع اقتراب الأجل، فالحياة رغم ما تضج من مآسي فإن لحظة الخروج منها شديدة الصعوبة، فيجد ذلك الطبيب المريض “كالانيثي” أن عليه البحث عن إجابات شافية بعيدا عن الطب وعلم والأعصاب، ويدرك أن مواجهة الموت أمر مخيف، بعدما أصبح أمام الحقيقة الغائبة، وكان السؤال: ماذا تفعل في الحياة إذا تيقنت أنك ستغادرها بعد قليل؟ يقول “كالانيثي”: “إذا كنت تعتقد أن العلم لا يوفر أساسًا لله، فأنت ملزم تقريبًا باستنتاج أن العلم لا يوفر أي أساس للمعنى، وبالتالي، فإن الحياة نفسها ليس لها أي أساس.

 كتاب “عندما تتحول الأنفاس إلى هواء”  

ولعل هذه يحيلنا إلى كتاب مهم عن المادية لـ”ديفيد هارت David Hart ، بعنوان ” تجربة الله: الوجود والوعي والنعيم”[1]، حيث أكد “هارت”أن المادية قناعة تفتقر إلى الدليل  والمنطق، ووصفها بـالمُسكن العاطفي أو كما شبهها الأديب الأمريكي الحائز على نوبل ” تشيسلاف ميلوش ”  Czesław Miłosz  بأنها “أفيون عدم الإيمان“، فالمادية توفر راحة زائفة من الجهد الروحي للوصول إلى الغاية والحقيقة، فهي لا تهدف إلى إشراك العقل أو الإرادة في أسرار الوجود، لذا أصبح الخوف الوجودي يُغلف الحياة ويتسرب إلى الأحلام، ويسحق كل محاولات اكتشافه.

غياب الرؤية المتعالية

افتقاد الإنسان المعاصر للقدرة على رؤية الحقيقة المتعالية في الموجودات، يحصر إدراكه في المادية، فتنتج المخاوف النابعة من الجهل، يقول عبد الرحمن الكواكبي:” أضر شيء على الإنسان هو الجهل، وأضر آثار الجهل هو الخوف” ، يذهب الجراح الأمريكي الشهير” أتول قواندي ” Atul Gawande ”  في كتابه “كونك بشر:المرض والطب وما يهم في النهاية” أن الفناء مرداف للأحياء خاصة البشر، وهو أمر لا مفر منه، لكن المشكلة الكامنة وراء تلك الحقيقة هي سوء التخطيط لهذه النهاية.

كتاب كونك بشر المرض والطب وما يهم في النهاية

وهنا يطرح طبيب أمريكي آخر، تلك الفكرة بوضوح أكثر، وهو البروفيسور ويليام بريتبارت ،William S Breitbart  المتخصص في الطب النفسي لذوي الأمراض المستعصية، الذي قضى أكثر من ثلاثين عاما من البحث والدراسة لإيجاد طريقة لعدم الخوف من الموت، ووصل إلى أن المشكلة تكمن فيما أسماه بـ “الذنب الوجودي”  Existential Guilt، فالناس تخشى الموت، وهو خوف نابع من المسئولية، وعند اقتراب الإنسان من لحظات الموت تنكشف له حقيقة التفريط والتقصير في تلك المسئوليات، لذا تنشأ رهبة الموت والمصير لتتحول إلى حالة من الرعب والصدمة المخيفة، وقد أظهرت الكثير من الدراسات النفسية أن الأشخاص المصابين بأمراض مُهددة للحياة أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بالاضطرابات النفسية المخيفة.

كتاب تجربة الله الوجود والوعي والنعيم

أما مفهوم الخوف فقد كان حاضرا في الرؤية الإسلامية، بمستوياته وتجلياته المتعددة، فقد ورد اللفظ في القرآن في ست وعشرين آية، وامتدح القرآن الكريم الخوف من الله، سبحانه وتعالى، وكذلك الخوف من الآخرة والحساب وسوء المصير، فهذا الخوف يضبط حركة الإنسان في الحياة، ويُلزم النفس الاستقامة، ويجنبها الإنحرافات والخطايا، فهو أحد معايير تحقيق الاستقامة.

يقول الشيخ “أحمد زروق” في كتابه “قواعد التصوف”: “الخوف هو انزعاج القلب من انتقام الرب”، وكان الإمام “الجنيد” يقول: “الخوف هو توقع العقوبة مع مجاري الأنفاس”، وكان “إبراهيم بن سفيان” يقول: “إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها ” أما ذو النون المصري، فكان يقول: ” إذا زال الخوف عن الناس ضلوا الطريق”، وأفاض “أبو حامد الغزالي” في كتابه “إحياء علوم الدين” في الحديث عن الخوف ومراتبه ودرجاته، وكانت الرؤية الإيمانية التي يبثها الإسلام، هي إطلاع الخالق، سبحانه وتعالى، على باطن الإنسان وظاهره، ومن ثم يجب أن يخشى الإنسان من أن تصيبه العقوبة في حال المخالفة أو العصيان، لذا كان شعور الخوف ملازما للمؤمنين، وهو شعور إيجابي يدفع إلى إحسان العمل والتقوى وفعل الصالحات، وليس حالة مرضية أو هلاوس تضر بالحياة، ومن ثم ربط العلماء بين الخوف ومعرفة الله، فمن كان أعلم بالله كان أشد خوفا، وقالوا:”وليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، إنما الخائف من يترك ما يخاف أن يُعذَّب عليه. “


[1]  ” The Experience of God: Being, Consciousness, Bliss