يشق على بعض المسلمين من غير العرب، والذين يتكلمون لغتهم الأصلية غير العربية، وهم بحاجة إلى الدعاء وكثرته في الصلاة، لكن لما كان الدعاء واسعا حسب الاحتياج، وشاع القول أنه يحرم الدعاء بغير العربية في الصلاة، فالبعض من غير العرب قد لا يدعو داخل الصلاة، بل ربما التجأ البعض إلى إحداث سجدة بعد التسليم فيطيل فيها السجود؛ انطلاقا من حديث: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء”. رواه مسلم

والناس في الدعاء بغير العربية ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: العرب

وهم الذين ولدوا في بيئات عربية ويجيدون العربية لأنها لغتهم الأصيلة. وهؤلاء يمتنع عليهم الدعاء في الصلاة بغير العربية، ويكره الدعاء لهم بغير العربية على الراجح، ولا تبطل الصلاة بذلك.

الصنف الثاني: غير العرب الذين يجيدون اللغة العربية

وهؤلاء إما أن يكونوا مجيدين للغة العربية مثل العرب أو أكثر أحيانا، أو يكونون يجيدون العربية لكن بضعف.

الصنف الثالث: غير العرب الذين لا يجيدون العربية ولا يتكلمون بها

وحكم العرب الذين يتكلمون العربية أصالة وغير العرب الذين يتكلمون العربية واحد، وهو وجوب التزام الدعاء وكل أفعال الصلاة بالعربية متى كان مجيدا لها قادرا عليها لا يجد مشقة في ذلك.

أما غير العرب الذين لا يجيدون العربية، فظاهر كلام الأئمة – رغم ما نقل عنهم من الاختلاف- أنه يجوز لغير العربي أن يدعو في الصلاة بلغته، لأن مقصود الدعاء طلب الحاجة وحضور القلب، والمشقة في ترجمة الدعاء إلى اللغة العربية يبعد القلب عن الحضور والشعور بالتذلل لله تعالى، فإن إعمال العقل بجهد يغيب القلب.

ويشهد لجواز الدعاء بغير اللغة العربية في الصلاة عدة أمور:

أولا – أن الدعاء في الصلاة ليس ركنا ولا واجبا من واجبات الصلاة؛ فيجب فيه اللغة العربية، بل إنه قد ورد الاختلاف في قراءة القرآن وأذكار الصلاة الأخرى بغير العربية لغير القادر عليها، فكان القول بجواز الدعاء باللغة العربية أولى.

ثانيا – أن القول بالتحريم الذي ذهب إليه المالكية لا دليل عليه إلا من جهة أن الدعاء بغير العربية ينافي تعظيم الله تعالى، وهو كلام مردود عليه؛ لأن المسلم مطالب بتعظيم الله تعالى، والمسلم قد يكون عربيا وقد يكون غير عربي، وقصر التعظيم باللغة العربية يضيق على الناس، ويدعى أن تعظيم الله إنما يصدر من العرب دون غيرهم من المسلمين، وقد عرف أن من غير الغرب من هم أشد خشية لله وأكثر حضورا للقلب من كثير من العرب، ولم يقف اللسان مانعا من تعظيم الله تعالى. بل إن المالكية الذين حرموا الدعاء بغير العربية اشترطوا في ذلك أن لا يكون الداعي عالما بمعاني الدعاء، أما من دعا من بغير العربية، عالما بمعاني الدعاء ومدلولاته؛ صح منه الدعاء بغير العربية عند المالكية. والقول عند الحنفية بالكراهة التنزيهية.

ثالثا – أن الله تعالى هو خالق اللغات جميعا، فالدعاء بغير العربية لا ينافي تعظيم الله تعالى، ولا ينقص من قدرة غير العربي على تعظيم الله تعالى وتسبيحه وتمجيده، فاختلاف الألسنة سنة من سنن الله في خلقه، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ ‌أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ [الروم: 22] ، وقد قال تعالى: ﴿‌وَعَلَّمَ ‌آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31] 

رابعا – أن الإجماع منعقد على جواز دعاء الله تعالى بغير العربية في غير الصلاة؛ فيكون الدعاء بغير العربية لغير العربي في الصلاة جائزا؛ استصحابا لحال الأصل.

خامسا – أن الإسلام هو خاتم الرسالات والنبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنه قد أرسل إلى الناس جميعا باختلاف ألسنتهم وأجناسهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً ‌لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28] ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري:” وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة”، وفي رواية مسلم:”  وبعثت إلى كل أحمر وأسود.

فالإسلام ليس دينا عربيا، وإنما هو دين عالمي للناس كافة، واشتراط العربية إنما يجب أن ينحصر فيما ورد فيه النص، وهذا ينصرف في القرآن دون غيره، لأن القرآن عربي وكتابة معانيه أو ترجمته لا يعد قرآنا.

سادسا – أن اشتراط الدعاء باللغة العربية فيه نوع من المشقة على الخلق؛ والمشقة مرفوعة في الشريعة بالنصوص من القرآن والسنة، حتى استقر مقصد رفع الحرج والمشقة من أهم مقاصد الشريعة، كما في قوله تعالى: ﴿‌لَا ‌يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286] ، وقوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ ‌حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6] ، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ ‌حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78] ، وقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ ‌الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].

قال الشاطبي في «الموافقات» (2/ 212):: ” وفي الحديث: بعثت بالحنيفية السمحة. وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وإنما قال: ما لم يكن إثما لأن ترك الإثم لا مشقة فيه من حيث كان مجرد ترك، إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى، ولو كان قاصدا للمشقة لما كان مريدا لليسر ولا للتخفيف، ولكان مريدا للحرج والعسر وذلك باطل.”

والأصل في الشريعة حث المصلين على كثرة الدعاء في الصلاة، فإن كانوا غير عرب وشرطت العربية؛ عسر عليهم الدعاء فيها، وهو مناف لمقاصد الصلاة.

سابعا – أن اللغة وعاء ووسيلة للتعبير عن المقصد، والمقصد من الدعاء الله يعلمه من عباده، بأي لغة كانت.

قال الإمام ابن تيمية – رحمه الله-: ” والدعاء يجوز بالعربيَّة ، وبغير العربيَّة . والله سبحانه يعلم قصد الداعي ومراده ، وإن لم يقوِّم لسانه ؛ فإنه يعلم ضجيج الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تنوع الحاجات” ” الفتاوى الكبرى ” ( 2 / 424).

ثامنا – أن اشتراط اللغة العربية في الدعاء لغير العرب؛ يوهم تحيز الإسلام للعرب دون غيرهم، والأصل أن المسلمين متساوين عند الله تعالى، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح.

والقول بجواز الدعاء بغير العربية ينمي انتماء المسلمين غير العرب إلى الإسلام، وهو من أهم مقاصد الشريعة.

تاسعا – أن التشدد باشتراط العربية أوقع بعض المسلمين في إحداث بدعة؛ فإن كان القول بالتيسير يحارب البدعة ويمنعها كان القول به وترجيحه على غير أوفق.

عاشرا – أن القول بجواز الدعاء بغير العربية هو قول كثير من الفقهاء عند التحقيق حتى لمن يجيد العربية،

قال الدسوقي المالكي:” فإن أتى أي العاجز عن الإتيان بها عربية. … لم تبطل فيما يظهر، قياسا على الدعاء بالعجمية ولو للقادر على العربية”. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير1/ 233 ط دار الفكر)

وقال ابن قدامة في المغني 3/274): ” ولا يلبي بغير العربية إلا أن يعجز عنها”.

وفي كشاف القناع 2/420-421): ” وإن لم يكن قادرا على العربية لبى بلغته كالتكبير في الصلاة”.

وقال النووي في المجموع شرح المهذب 3/300:” وذكر صاحب الحاوي أنه إذا لم يحسن العربية أتى بكل الأذكار بالعجمية.