ذهب كثير ممن كتب في موضوع الدين إلى التأكيد على ملازمة هذا الأخير للإنسان، وارتباطه به ارتباطا وثيقا ودائما. فالدين ضرورة حياتية يطبع الإنسان، ويسير حركة حياته وتطوره، والتدين مظهر أساسي من مظاهر الكينونة الإنسانية، كما أن الفكرة الدينية منتشرة بين جميع الشعوب والأقوام البدائية أو المتحضرة، ولهذا ذكر مؤرخو الحضارات والأديان أن الدين من العوامل التي سيطرت على البشر، وأن التدين من السمات التي لا تنفك عنها نفس بشرية، ومن المستحيل أن نتصور ماهية الإنسان دون أن يتبادر إلى ذهننا فكرة الدين.

ولكن هل الدين فعلا ملازم للإنسان؟ وهل كل الأمم التي مرت كان لها دين؟ ألم يوجد أقوام ماديون لا دينيون؟

لقد أشار ويل ديورانت (Will Durant)  في موسوعته “قصة الحضارة” إلى هذه المسألة فقال: “إذا عرفنا الدين بأنه عبادة القوى الكائنة فوق الطبيعة، فلا بد لنا منذ البداية أن نلاحظ أن بعض الشعوب – فيما يبدو- ليس لهم ديانة على الإطلاق”. ويقدم ديورانت أمثلة على ذلك؛ فيذكر الأقزام في إفريقيا الذين لم يكن لهم عقيدة أو شعائر دينية يقيمونها بحيث يراها المشاهدون، ولم يكن لهم طوطم ولا أصنام ولا آلهة، وكانوا يدفنون موتاهم بغير احتفال، فإذا ما فرغوا من دفنهم لم يبد عليهم ما يدل على أنهم يهتمون لأمرهم بعد ذلك إطلاقا.[1]

وذهب بعض كتاب القرن الثامن عشر في أوربا إلى نفي الدين عن الإنسان مطلقا، إذ رأوا في الديانات والقوانين منظمات مستحدثة، وأعراض طارئة على البشرية، فقال فولتير (voltaire):  إن الإنسانية لا بد أن تكون قد عاشت قرونا متطاولة في حياة مادية خالصة قوامها الحرث، والنحت، والبناء، والحدادة، والنجارة، قبل أن تفكر في مسائل الدينيات والروحانيات. بل قال إن فكرة التأليه إنما اخترعها دهاة ماكرون من الكهنة والقساوسة الذين لقوا من يصدقهم من الحمقى والسخفاء[2].

على أنه لم ينقض القرن الثامن عشر حتى ظهر خطأ هذه المزاعم، حيث كثرت الرحلات إلى خارج أوربا، واكتشفت العوائد والعقائد والأساطير المختلفة، وتبين من مقارنتها أن فكرة التدين فكرة مشاعة لم تخل عنها أمة من الأمم في القديم والحديث. بل أكثر من ذلك لا توجد في الواقع ظاهرة أخرى أكثر انتشارا أو ثباتا من مجتمع إلى مجتمع من ظاهرة تطلع الإنسان نحو آلهته، وهذا ما أجمع عليه علماء الأديان[3].

وقد بات في حكم المقرر – كما يرى إلياد مرسيا – أن الدين قد لازم نشأة الحضارة، وبدا على أنه خصلة من الخصال التي تميز الفكر الإنساني، حتى إنه من العسير أن نفترض وجود مجتمع غابر خلا من التدين إلا إذا اعتبرناه متسما بالبلاهة أو العجز[4]. ويرى برغسون أنه قد وجدت وتوجد جماعات إنسانية بدون علوم، أو فنون، أو فلسفات، ولكن لم توجد جماعة إنسانية أبدا بدون دين[5].

وهكذا بعد التأكد من ملازمة الدين للإنسان والارتباط الوثيق بينهما، حتى قال بعضهم: حيثما يوجد الناس يسكن الدين[6]. بل حتى قال مرسيا إلياد (Mircea Eliade) : “أن تكون – أو بالأحرى – أن تصبح إنسانا يعني أن تكون متدينا.”[7]

بعد كل هذا حق لنا أن نتساءل فنقول: إذا كان الدين كذلك فما بالنا اليوم نرى أناسا بعيدين كل البعد عن الدين، لا تبدوا عليهم أثار هذه الغريزة، ولا مكان للدين في حياتهم، يعيشون حياة مادية خالصة، بعيدا عن كل مسائل الروحانيات أو الإلهيات. أين اختفت غريزة التدين في عصرنا هذا؟

إن عدم تجلي غريزة التدين عند الإنسان على أرض الواقع وعدم مشاهدة آثارها المباشرة، لا يعني بالضرورة أنها غير موجودة، بل يعني ذلك أنها قد حجبت بأمور أخرى، مما أدى إلى تهميشها وإبعادها عن حياة بعض الناس. وهذا ما أكده معجم القرن العشرين حيث ربط بين اختفاء غريزة التدين وبين الإسراف في الحضارة: “إن هذه الغريزة الدينية لا تختفي بل لا تضعف إلا في فترات الإسراف في الحضارة وعند عدد قليل من الناس.”

وفي جواب شاف لعبد الله دراز عن هذه المسألة ينطبق على كثير من الناس في زماننا هذا يقول: “واعلم أن عموم الأديان لجميع الأمم لا يعني عمومها لكل أفرادها، فإنه لا تخلو أمة من وجود ذاهلين قد غمرتهم تكاليف الحياة وأعباؤها، إلى حد أنهم لا يجدون من هدوء البال وفراغ الوقت ما يمكنهم من رفع رؤوسهم للنظر في تلك الحقائق العليا، كما لا تخلو أمة من منكرين ساخرين يحسبون الحياة لهوا ولعبا، ويتخذون الدين وهما وخرافة…وهم في الغالب من المترفين الذين لم يصادفهم من عبر الحياة وأزماتها ما يشعر نفوسهم معنى الخضوع والتواضع، وما ينبه عقولهم إلى التفكير في بدايتهم ونهايتهم.”

إن الدين والإنسان وجهان لعملة واحدة، فلا غنى لأحدهما عن الآخر، ومهما حاول الإنسان الابتعاد عن الدين وإزاحته من حياته فإنه لن يستطيع ذلك فهذا الشعور لا يفلت منه أحد كيفما كان جنسه، أو منصبه، أو وضعيته الاجتماعية.


[1]  ديورانت ول، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، ج1-2، ص98

[2]  الدين، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، دار القلم للنشر والتوزيع القاهرة، 2003،  ص125

[3]  نفسه، ص126

[4]  المقدس والعادي، إلياد مرسيا، ترجمة عادل العوى، صحاري للصحافة والنشر، 1994، ص10

[5] Bergson Henri, Les deux sources de la morale et de la religion, Les Presses universitaires de France, Paris, 1948, p55

[6]  في مقارنة الأديان، بحوث ودراسات، الشرقاوي محمد عبد الله، دار الفكر العربي القاهرة، 2002، ص11

[7]  تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية، إلياد مرسيا، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق، 1986، ج1، ص9