توارى عن الإعلام لأنه أعمق من أن يزاحم السطحيين، وانحسرت عنه الأضواء لأنه لا يعرف السباحة في فلك التفاهات.. لكن أهل العلم الحقيقيين يعرفونه، وبلغت به المنزلة أن لقبوه بشيخ الفقهاء في مصر..

إنه الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان العميد الأسبق لكلية الشريعة جامعة الأزهر وأستاذ الفقه المقارن، الذي وافته المنية أمس عن عمر يناهز الثمانين عاما..

نعاه الأزهر قائلا: “قيمة وقامة سيظل يذكرها التاريخ….” وصدق بيان نعي المؤسسة الدينية الأكبر لفقيدها، فميراث العلامة الدكتور محمد رأفت عثمان سيظل خالدا وشاهدا على مواقف مشايخ الأزهر

معارضة صريحة

للفقيد رحمه الله مواقف لا تنسى ظهر فيها معدنه الأزهري الأصيل الذي يأبى على التطويع والسير إما في فلك التعليمات أو العادات، كما هي آفة العلماء في كل عصر ومصر..

ففي جلسة عاصفة شهيرة ناقش مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف فوائد البنوك وحلها أو حرمتها، كان رحمه الله ثاني اثنين مع الدكتور عبد الفتاح الشيخ رحمه الله، عارضا قرار شيخ الأزهر والمجمع بحل تلك الفوائد، وخرج بعدها للصحفيين وأعلن ذلك، وانتقد فتوى المجمع بكل قوة..

ولم يكتف رحمه الله بهذا الموقف، بل وألف كتبا عن القضية لعل أهمها: “الربا وبعض المعاملات المصرفية”، و “شراء البيوت للسكن من البنوك بالفائدة

وحتى وافته المنية ظل الدكتور محمد رأفت عثمان رحمه الله على فتواه، حتى بعد اختياره عضوا بهيئة كبار العلماء بالازهر الشريف، لم يدفعه ذلك للمجاملة ولا المحاباة..

مجدد مستنير

قليلون هم أولئك الفقهاء الذين يجمعون بين الأصالة والمعاصرة.. بين التراث والتجديد، بين الفهم العميق لأصوله والإدراك الدقيق لواقعه.. وإذا وجد هذا الفقيه الذي يحوز تلك الصفات فإنه يصير علامة مميزة في تاريخ الفقهاء.. وكذلك كان النجباء من فقهائنا على مر العصور… وفقيدنا رحمه الله كان واحدا من هؤلاء النجباء..

فقد تميز العلامة الدكتور محمد رافت عثمان أنه من القليلين المستنيرين الملمين بالقضايا العلمية العصرية.. طبية كانت أو هندسية أو اقتصادية أو حتى اجتماعية..

وكان مجمع البحوث وهيئة كبار العلماء ومشيخة الأزهر إذا عرضت لهم قضية في هذه المناحي أحالوها إليه ليدرسها وليكتب عنها تقريرا وافيا ما كان مجمع البحوث يزيد على أن يوقع عليه…

وقد برز رحمه الله في هذا المضمار أيما بروز، وألف كتبا كثيرة صارت علامة في الفقه التجديدي يستنير بها خبراء المجامع الفقهية وينقلون عنها…

ولعل أهمها: ” نظرة فقهية في الأمراض التي يجب أن يكون الاختبار الوراثي فيها إجباريا ” و” الإنجاب وتنظيم الأسرة من منظور إسلامي ” و” الإجهاض من وجهة نظر إسلامية” و ” النواحي الشرعية لممارسات طبيب التكاثر البشري ” و” الوقاية من مرض الإيدز من منظور إسلامي ” و” الاستنساخ في ضوء الفقه الإسلامي ” و” الأحكام الدينية لوسائل تنظيم الأسرة .

ولا غرو فالفقيد رحمه الله أحد مؤسسي مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، وقد اكتسب تلك الخبرات من كثرة أسفاره ومشاركاته التي كان فيها مسهما إسهاما واضحا في إثراء العقل الفقهي الإسلامي بكل جديد…

ومن ذلك اشتراكه رحمه الله في كثير من المؤتمرات بالمناقشة والتعليق على البحوث، وهي أحد أدوات الفقيه التي تكسبه مهارات لا يمكن اكتسابها وهو قابع في بيته أو معهده العلمي دون اطلاع على الجديد..

ولعل أهم مشاركات الفقيد رحمه الله كانت مثلا في المؤتمر الثالث للمصرف الإسلامي، المنعقد بإمارة دبي عام 1985م ، حيث كان أحد أصحاب الإسهام الول في بلورة رؤية جديدة للمصارف الإسلامية بنيت عليها قواعد عملها فيما بعد، ومنها كذلك المؤتمر العالمي عن الإسلام والسياسة السكانية، المنعقد في جاكرتا عام 1990م، والندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة، المنعقدة بالكويت عام 1992م، و”المؤتمر السنوي السابع الذي أقامه المركز الثقافي الإسلامي ” بشمال هدسون بولاية نيو جيرسي الأمريكية، عام 1999م

ولعل هذه الموسوعية وتلك القدرة الكبيرة على التزود بالجديد وممارسة دور الفقيه الحق هو ما دفع جامعة الأزهر لأن ترشحه مرتين لنيل جائزة الدولة التقديرية عام 1995م – وعام 1997م.

ولعله كذلك سبب اختياره من قبل مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام _ في تقريره عن الحالة الدينية في مصر، الصادر عام 1998م_، كأحد أربعة مجددين كانوا أساتذة أو تخرجوا في كلية الشريعة، بجامعة الأزهر..

نشاط علمي دؤوب

التلقين والتعليم المباشر والرؤية أحد أهم آليات انتقال المعارف من جيل إلى جيل، ولهذا كان الفقيد رحمه الله تعالى دؤوبا في محاولة نقل معارفه وخبراته إلى أجيال من علماء الأزهر الذين تتلمذوا على يديه، فأشرف رحمه الله على أكثر من ثلاثين رسالة ماجستير ودكتوراه، وشغل عضوية الكثير من اللجان العلمية أهمها: مقرر اللجنة العليا الدائمة لترقية الأساتذة في الفقه المقارن بجامعة الأزهر، وقام بفحص وتقويم النتاج العلمي لعدد كبير من طلاب الترقية إلى درجات أعلى من أعضاء هيئات التدريس في جامعات مصر وغيرها من الجامعات العربية…

وشغل رحمه الله تعالى عضوية لجنة المعادلات بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية وعضو بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر وعضو مجلس إدارة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر وعضوية لجنة التشريعات الاقتصادية به وعضو مؤسس بجمعية الخصوبة والعقم بمصر وعضو مجموعة العمل الحكومية المؤقتة المقرر تشكيلها وفقاً لقرار مؤتمر القمة الإسلامي بشأن المرأة ودورها في تنمية المجتمع الإسلامي.

السيرة والمسيرة

ولد العلامة الدكتور محمد رأفت عثمان في 27 من شهر نوفمبر لعام 1935م  بمحافظة الشرقية وحفظ القرآن الكريم قبل المرحلة الابتدائية، كان والده من رجال التعليم، ويعمل ناظراً فى إحدى المدارس، وبدأ حياته الأزهرية من الكُتّاب فى القرية ثم التحق بمدرسة التقدم الوطني، ثم بمعهد الزقازيق الديني وهو أكبر أربعة معاهد كبرى بمصر آنذاك وهي “الزقازيق وطنطا وأسيوط والإسكندرية

ثم التحق بكلية الشريعة والقانون لميوله إلى الفقه، وكان يحصل على الدرجات النهائية، ونال منها الإجازة العالية – الليسانس- عام 1961م، ثم العالمية مع إجازة التدريس من كلية الدراسات العربية (اللغة العربية حاليا) عام 1963م، ثم الماجستير في الفقه المقارن من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر عام 1967م، والدكتوراه في الفقه المقارن مع مرتبة الشرف الأولى من كلية الشريعة والقانون عام 1971م، ثم مدرسا بقسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون من 1972م ، وأستاذا مساعدا بقسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون 1977م، ورئاسة قسم الفقه المقارن من 1981م ، وأستاذا بقسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة من 1983م،  وعميدا لكلية الشريعة والقانون بطنطا من 1989م لمدة ست سنوات، وأستاذا ورئيسا لقسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة من 1995م، ثم عضو بمجمع البحوث الإسلامية ثم عضوا بهيئة كبار العلماء، وعضوا مؤسسا في مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا.

ميراث المكتبة

ترك العلامة الدكتور محمد رأفت عثمان ميراثا ضخما للمكتبة الفقهية، منه: ” موارد الدولة ونفقاتها” و” الرعاية النفسية والاجتماعية والتربوية لأسر الشهداء، والأسرى المفقودين ” و” التقويم رؤية حضارية.. وأزمة الهوية” و” الوقف وأثره في التنمية ” و” أهمية الاجتهاد ومشروعية تعدد الرأي وحوار الاختلاف في المذاهب وحدوده ” و”رياسة الدولة في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة ” و” العلاقات الدولية في الإسلام “.