احتفى تراثنا الإسلامي بالزمن حفاوة كبيرة، جعلت الحسن البصري يقول في إحدى مواعظه البليغة: “ابنَ آدمَ؛ إنما أنت أيام؛ فإن ذهب يومٌ ذهب بَعضُك” (حلية الأولياء، 2/ 148)؛ وما أعمقها من موعظة ترى الإنسان أيامًا، أي زمنًا؛ فهو رأسمال الإنسان، بل هو الإنسان نفسه!

 

ومن قبل، جاءت الآيات القرآنية تُقْسِم بأجزاء من اليوم؛ مثل الفجر، الليل، النهار، الضحي، العصر؛ لتلفت الإنسان إلى الزمن، لاسيما في أوقاته الفاضلة التي يكثر فيها الخير، أو تلك التي يغفل عنها الناس.. فالقَسَم يدل على أهمية المقسوم به.

وجاء في السنة النبوية: اغتنمْ خمسًا قبل خمسٍ شبابَك قبل هرمكَ وصحتَك قبل سَقمِكَ وغناكَ قبل فقرِك وفراغَك قبل شغلِك وحياتَكَ قبل موتِكَ” (الترغيب والترهيب، 4/ 125).. والشباب والفراغ والحياة هي مضامين زمنية؛ أي دالة على الزمن ومشتقة منه.

ولهذا كان مما يدعو للندم أن يضيع الإنسان بعضًا من زمنه، لأن ذلك يعني تضييع جزء من حياته ومن رأسماله؛ ففيما يُنسَب لابن مسعود: ما ندمت على شيء كندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي.

فهذه النصوص دالة على ما للزمن من مكانة في المنظور الإسلامي؛ وأن هذه المكانة تتجاوز بالزمن دائرته المادية أو الفيزيائية، إلى دائرته الاجتماعية والحضارية.

ــ أما بالنسبة للدائرة الحضارية:فقد أوضح مالك بن نبي أن “الزمن” جزء من “معادلة الحضارة”، مضافًا إليه “الإنسان” و”التراب”. فبهذه العوامل الثلاثة تتدافع حركة الحضارة، وتنمو باطراد، وتحجز مكانها في حركة التاريخ.

ــ وأما الدائرة الاجتماعية للزمن: فأقصد بها أن لكل زمن مجموعة من الخصائص والشروط.. وفاعلية الإنسان تتوقف على مدى إدراكه لهذه الخصائص والشروط.. ولهذا، مثلاً، نرى العصر الأموى غير العصر العباسي؛ بالنسبة للتاريخ الإسلامي.. والقرون الوسطى تختلف عن عصر النهضة، بالنسبة للتاريخ الغربي.

ومن المؤكد أن فاعلية الإنسان اجتماعيًّا تتوقف على فَهْمه للزمن الذي يحيا فيه، وللعصر الذي هو مجال حركته.. فهنا، يكون الزمن ليس مجرد مرادف للوقت المكوَّن من ثوان ودقائق وساعات، وإنما هو مُحصِّلة لمجمل مكونات المجتمع في فترة زمنية ما.

ورغم ما قد يبدو في هذا الكلام من تجريد وفلسفة، فإن له أثرًا عمليًّا، وهو ما يريد هذا المقال أن يلفت النظر إليه.

فمن يريد أن يكون فاعلاً في الحياة، عليه أن يدرك “الزمن” بمستوياته المتعددة:

– الزمن في المستوى الفردي:أي كيف يدير الإنسان زمنه، وكيف يستفيد من وقته.

– الزمن في المستوى الحضاري: فهو جزء من معادلتها.. والبناء والتغيير لا بد أن يتم في زمن يناسب الأهداف المرجوة، ولا يمكن تجاوز الزمن وإلا استعجلنا قطف الثمرة، كما أن البطء لا يحقق الأمل المرجو.

– الزمن في المستوى الاجتماعي: أي الخصائص التي يتصف بها عصر من العصور، أو مجتمع من المجتمعات.. والغفلة عن ذلك تجعل الإنسان منفصلاً عن مجتمعه، فيبدو في زمن غير الزمن الذي يحياه المجتمع.

وللأسف، فإن المسلمين في واقعهم يبدون منفصلين عن “الزمن” الذي هم فيه، وعن متطلباته الواجبة عليهم.. سواء زمنهم هم، وما فيه من تحديات وفرص.. أو الزمن العالمي، وما فيه من تطورات وتغيرات.

إنهم يعيشون أيامهم كأهل كهف، قد جَمَدَ بهم الزمن.. وما أشبه هذا الجمود بجمود الموتى، فهم أيضًا قد جمد بهم الزمن!! غير أن الموتى يمرون بمرحلة طبيعية من مراحل الدنيا، بعد أن قضوا فترة اختبارهم.. أما من جمد به الزمنُ، أو حَمَّدَ هو الزمنَ وهو حيّ، فإنه قد استعجل مماته قبل أوانه، وصار أشبه بالمنتحر!!

وهذا يجرنا إلى سؤال مهم: كيف يدرك الإنسان زمانه، ويفهمه ويتفاعل معه، لاسيما في المستوى الاجتماعي للزمن، والذي يهمنا بصورة أساسية في هذا المقال؟

لا شك أن إدراك الإنسان للزمن في هذا المستوى من المعرفة والتحليل، يتطلب أن يكون الإنسان على وعي وبصيرة بواقعه، غير منعزل له، ولا مستخف بحقائقه، فضلاً عن أن يكون متعاليًا عليه.. فالإنسان قد جاء ليعيش هذا الزمن، ويحيا في هذا المجتمع، وعليه أن يفهمه قبل أن يتعامل معه، وأن يندمج فيه ولا ينعزل عنه أو يتعالى. ولا يعني هذا أن يصير “الزمن” أو “الواقع” مرجعًا حاكمًا، وإنما أن يكون مجالاً للفعل والحركة مأخوذًا في الاعتبار..

فالمسلم لا يسعه أن ينعزل عن الناس، ولا أن يتجاهل زمنه؛ لأنه مأمور بإلإصلاح وبالدعوة وبالعمارة: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (هود: 88)؛ {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108)، {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هو: 61).

بجانب هذا، على الإنسان أن يدرك الثابت من المتغير، والأصل من الفرع، والأساسي من الهامشي؛ ومن رحمة الله تعالى أن جعل التشريعات والتوجيهات على درجات متفاوتة من الطلب والأهمية والأولوية.. ولو لم يراعِ الإنسان هذا التفاوت، فإنه سيتحرك حيث يجب أن يتوقف، أو يجمد حيث عليه أن يتحرك، أو يتأخر بينما مطلوب منه أن يتقدم.. أي لن يضبط إيقاع حركته على متطلبات زمنه.. وقد يخوض معارك وهمية، أو ليست بذات جدوى.

ولئن قيل: لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم (والمقولة لسقراط، كما في “الملل والنحل” للشهرستاني، 2/ 145).. أي أن لكل زمان سمات وخصائص.. فإن من يريد أن يسهم في الحضارة، ويحجز لنفسه مكانًا في التاريخ، ويمارس دوره الاجتماعي والحضاري بفاعلية؛ عليه أن يدرك أيَّ زمان هذا الذي قد خُلق له، ويتحرك فيه.. حتى لا يعيش زمانَ غيره؛ عَيْشًا بالمعنى السلبي، لأنه لن يكون- حينئذ- إلا التأخرَ عن زمانه، والجمودَ عند زمن قد مضى.. بينما المطلوب أن يعيش الزمن الحاضر، فضلاً عن التطلع للزمن المستقبل.